بوابة الخيمة

editor

الفلسفة والاجتماع وفي رأيي إن طريقة مالك بن نبي في طرح مشكلة المسلمين كمشكلة حضارة ومجتمع ودعوته المجتمع الإسلامي للنهوض بعمله الخاص الدؤوب ودون انتظار نيل الحقوق من طرف خارجي هي طريقة قيمة جداً نحتاج إليها هذه الأيام حين نرى أن من الإسلامين من يمحور كل نشاطه حول هدف مطالبة السلطة بحقوق أو قوانين ويترك مهمة الإصلاح الاجتماعي مؤجلة بانتظار تطبيق الشريعة الإسلامية! إن مالك بن نبي في رأيي يعلمنا أن تطبيق الشريعة هو واجبنا وعلينا أن نشرع به فوراً في أوسع أبوابه وهو باب بناء المجتمع المتين، لا في أضيق أبوابه وهو باب الجدل العقيم والتركيز على الفرعيات والبحث عن نقاط الاختلاف وليس عن نقاط الالتقاء بين المسلمين!



وطريقة مالك بن نبي في التحليل الصبور لمشاكل الحضارة يحتاج إليه جيل الشباب عندنا الذين يميلون في حماسهم إلى ترك التحليل العلمي وتفضيل رفع الشعارات عليه.

ولعل لجوء بن نبي إلى التحليل الصبور مما لا يجعله كاتباً مفضلاً عند هؤلاء الشباب الذين يعجبهم الأسلوب الحماسي الذي يطرح أفكاراً قليلة وعواطف كثيرة. مالك بن نبي يطرح على العكس عواطف قليلة وأفكاراً كثيرة! وهو بمنهجه هذا يعتقد أن مسألة نهضة الحضارة تخضع لسنن الله في الكون، وهي بالتالي تستوجب منا أن ندرس هذه السنن بإمعان لنستطيع التأثير ونكون فاعلين في الحضارة كما رأينا. العمل الصبور المنهجي الدؤوب المتواضع الذي يقبل "بإنجازات صغيرة" هي لبنات بناء الحضارة المنشودة ولا يتبع مبدأ "كل شيء أو لا شيء "وليس مصاباً بمرض فرط التسيس الذي لا يرى شيئاً مهماً خارج مسألة السلطة، هذا العمل هو الذي يبدو لي أنه جوهر دعوة بن نبي وليس بن نبي قليل الطموح فهو يرى أنه انطلاقاً من هذا العمل، انطلاقاً من قيام كل فرد في المجتمع بواجبه نحصل على حقوقنا الكبرى في العالم.

فإلى من يتوجه بن نبي في الخطاب؟

أيتوجه إلى المجتمع أم إلى السلطة؟ وإجابتي على هذا السؤال تقول إن بن نبي يتوجه إلى كليهما، ولكنه يركز اهتمامه خصوصاً على العمل الاجتماعي الذي تقوم به المؤسسات الوسيطة بين الدولة والناس، كالجمعيات الأهلية، والمؤسسات الاقتصادية، وهيئات التخطيط الاجتماعي والعمل الثقافي، ولا يركز اهتمامه الوحيد على مركز القرار السياسي في المجتمع. وباختصار فإن مدرسة مالك بن نبي السياسية توجه انتباهنا إلى جوانب في غاية الأهمية من شأنها أن تثري العمل النهضوي وتستكمل نواقصه. وحين نريد أن نحدد موقع بن نبي في الفكر الإسلامي المعاصر يمكن أن ننظر إليه بطريقتين مختلفتين واحدة داخلية و الأخرى خارجية.

الطريقة الداخلية هي أن ننظر إلى هذا الفكر ببنائه الداخلي الذاتي وتفاعله مع الواقع.

والطريقة الخارجية هي أن ننظر إليه بمقارنته بالمدارس الأخرى. وهذه الطريقة تساعدنا بلا شك على رؤية ما لم يطرحه بن نبي أو ما لم يواجهه من قضايا ومشاكل ولكنها تساعدنا أيضاً على رؤية جوانب قوة رؤيته إزاء جوانب ضعف المدارس الأخرى.

الطريقة الداخلية هي التي اتبعتها إلى الآن في مقالي هذا وهي تخبرنا فيما آمل عن ما قاله بن نبي ولكنها لا تخبرنا عما لم يقله وقالته المدارس الأخرى.

وما كنا لنتتطرق إلى هذه النقطة الأخيرة لولا أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في أيامنا هو التالي: كيف كان بن نبي سينظر إلى من يسمون في عصرنا بالإسلاميين؟ وما الذي كان سيقره من أطروحاتهم وطرقهم في التفكير – علماً أنهم متنوعوا الأفكار وليسوا متطابقين في كل شيء بل يختلفون من اتجاه لآخر في قضايا هامة- وما الذي كان سيرفضه؟

في الحقيقة إن الذي يقرأ بن نبي وفي ذهنه منذ البداية طريقة الاتجاهات المعاصرة المسماة الاتجاهات الإسلامية قد يميل وهو "يبحر" في صفحات بعض مؤلفات بن نبي إلى عده مجرد باحث اجتماعي أو باحث في فلسفة التاريخ كان من الممكن أن لا يكون أصلاً باحثاً مسلماً فكثير من نظرياته الاجتماعية والتاريخية صالحة لأن تقال في أي ثقافة أخرى وأياً يكن انتماؤها الديني.

هذه نقطة افتراق كبرى عن الاتجاه الإسلامي السياسي السائد إذ هذا الاتجاه الأخير لا يهتم بالتحليل الاجتماعي والتاريخي بحد ذاته بل هو أساساً تشغل باله فكرة واحدة هي إقامة دولة على أساس الشريعة الإسلامية وهو يرى أن كل مشاكل المسلمين ناتجة عن غياب هذه الدولة وأنه ما من حل مجد قبل هذا القيام، وكل التحليلات السوسيولوجية والتاريخية إن وردت في كتابات هذا التيار و ورودها نادر فهي ترد لتأكيد هذه الفكرة الرئيسية.

سأقول بداية إن فكرة بناء الدولة على أساس الشريعة الإسلامية ونقد قيام الدولة المعاصرة في بلاد المسلمين على أساس القانون الوضعي المستورد لا تكاد ترد عند بن نبي وهو يعد مشكلة المسلمين الأساسية – كما رأينا- هي أنهم يعيشون في حالة انتقالية بين وضع حضارة قديمة تفسخت وحضارة جديدة لم تبن بعد، وكل كتاباته سماها بالفعل "مشكلات الحضارة" وكل حديث عن بن نبي هو حكماً حديث عن نظريته في شروط النهضة وما يسبق هذه النظرية منطقياً من نظريات أعم في دورة الحضارة وبناء المجتمع وتغير هذا البناء مع المراحل التي تمر فيها الحضارة في تطورها بين النهوض والارتقاء والانحدار.

ولكن بن نبي إن كان قليل التركيز على مطلب تطبيق الشريعة الإسلامية فإن هذا لا يعني بحال من الأحوال أنه غير مهتم بالشريعة وبالعكس فهو أولاً في نظريته الرئيسية يرى أنه لا يمكن أن تقوم حضارة بغير دور الدين المركب لعناصر الحضارة كما رأينا، وهو ثانياً يعارض الأوضاع الاجتماعية التي لا تتناسب مع الشريعة الإسلامية وإن كنا نرى أنه ضمناً لا يرى أن نصوص الفقه الإسلامي تكفي وحدها لبناء الحضارة المطلوبة إذ هذه الحضارة لها سنن علمية مثل سنن الطبيعة على المسلم أن يبحثها ولا يتوقع أن يجدها جاهزة في نصوص الشريعة وإن كان بالتأكيد يجد كثيراً من التوجيهات العامة في هذه النصوص (كما رأينا في استشهاداته بالآية عن التغيير "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وبالحديث "توشك أن تتداعى .." وبأحداث السيرة) ومن هنا رأيناه يطالب لحل مشكلة المراة في المجتمع الإسلامي بمؤتمر يشارك فيه اختصاصيون في علم النفس والتربية والطب وعلم الاجتماع كما يشارك فيه اختصاصيون في الشريعة ولعل هذا المثال يوضح بصورة جيدة أنه يرى الشريعة قانوناً عاماً للمسلمين ولكن حياتهم الاجتماعية تتقرر بسنن لاتتعارض مع الشريعة ولكن نصوص الشريعة لا تكفي وحدها لاستخلاصها. وفي اعتقادي أن هذا الرأي هو بالذات رأي أي عالم شرعي متبحر رغم أن العناصر المتسرعة الجاهلة في مجتمعنا قد تسارع إلى التنديد بهذا الفهم الذي هو في الحقيقة للمتأمل بديهي!.

وهو يعد الشريعة أساس حضارة الإسلام على شرط أن تكون فاعلة في الروح والنفس كما رأينا لا أن تكون نصوصاً جامدة للاستظهار أو للبحث النظري المجرد.

والاختلاف الكبير لرؤية بن نبي عن رؤية الأيديولوجيا العربية المعاصرة كلها وليس عن أيديولوجيا الحركة الإسلامية ما بعد البنا فحسب هو أنه لا يرى حل مشكلة المسلمين في استلام سلطة مهما تكن جيدة بل يراها أساساً فعلاً اجتماعياً وتجدداً نفسياً روحياً لمجتمع متين شبكة علاقاته الاجتماعية كثيفة يقوم فيه كل فرد بواجبه ويركز على واجباته أكثر مما يركز على حقوقه. وهذه الفكرة أراها في غاية الفائدة في زماننا إذ أنه في الوقت الحاضر ما من سلطة مهما كانت جيدة تستطيع أن تصمد أمام التحديات الخارجية وأمام المتطلبات الداخلية أيضاً من اقتصادية وغيرها إذا استمر الوضع الاجتماعي الحضاري المتحلل عندنا وهو متحلل بوجوهه كلها فثمة تجزئة سياسية وتناحر بين الدول وتدهور اقتصادي وتحلل اجتماعي وثقافي. وأي عمل فوقي لن يجدي فتيلاً إن لم يترافق مع عمل تحتي يقوم به مجتمع بثت به الروح وقرر فيه كل فرد أن يقوم بواجبه وكأن مصير الحضارة كلها معلق به، وفي رأي بن نبي أن هذه النهضة عندنا تقوم أساساً على أساس الدين وهو بهذا المعنى بلا شك مفكر إسلامي بامتياز. وهو في هذا السياق انتقد المستشرقين نقداً مريراً لاعتقادهم أن الإسلام بالذات كان هو العامل المسبب لانحطاط المجتمعات الإسلامية أما هو فكان يؤمن إيماناً عميقاً بان الإسلام هو عامل نهضة وأن الابتعاد عن الإسلام هو السبب الحقيقي في الانحطاط،ومن هنا فإن التحلل من واجبات الدين لا ينتج شرطاً من شروط النهضة بل على العكس وهذا ما جعله ينقد رئيس بلد إسلامي اقترح على شعبه الإفطار في رمضان "لمواجهة ضرورات البناء الاجتماعي" قائلاً:

"كأن هذا البناء يمكن أن تقوم قائمته دون أسس أخلاقية، أو كأنما يمكن في أي بلد فصل الجهد الاجتماعي عن القوى الأخلاقية التي تسانده، دون هدم هذا الجهد ذاته وهذا مستحيل" ("ميلاد.."ص98) وعند بن نبي لا نجد علاقة عدائية مع الأنظمة السياسية وهو لا يطرح شعار إسقاط الأنظمة وقد يقال إنه لم يكد يشهد في بلاده نظاماً ليفكر في إسقاطه إذ لم يعش طويلاً بعد عهد الاستقلال وهذا على صحته إلا أنه ما كان ليصح حتى لو أن بن نبي بطريقته في التفكير عاش الآن لأنه كما رأينا ما كان من الممكن أن يرى حل المشكلة الحضارية في إجراء سياسي فوقي من نوع "تطبيق الشريعة الإسلامية" بمعنى استبدال المدونة الفقهية مثلاً-من نوع "المجلة" العثمانية بالقانون الوضعي.والتجارب المعاصرة تعطيه في رأيي الحق ولنتأمل في أمثلة طبقت فيها الشريعة بهذا المعنى كما في السودان والسعودية بل كما في اليمن الإمامية..بل كما في أكثر تجربة كانت تحوز على الجماهيرية وقامت على أكتاف الناس وتمتع قوادها بنظرة للمجتمع والعصر والشريعة بل والفكر واسعة الأفق إلى حد جيد برأيي وهي تجربة "الثورة الإسلامية الإيرانية".

ولا يجعل هذا من بن نبي طبعاً كما رأينا شخصاً لا يريد تطبيق الشريعة لكن له فهمه الأوسع أفقاً لهذا التطبيق المستند بصورة أفضل إلى سنن الله في المجتمع والحضارة.وقد حاولت في هذه الدراسة أن أشرح معنى هذه الفكرة.

وبن نبي لم يؤسس حزباً سياسياً وفي اعتقادي أن طريقته في التفكير وفي تصور "البرنامج" الذي يجب أن تسير عليه السياسة الإسلامية ما كان ليجعله يسير في اتجاه كهذا، ولعل إعجابه بحركة الأستاذ البنا في بداية صعودها الكبير ناتج عن كون هذه الحركة غير حزبية، بل كان موقف البنا من الأحزاب المصرية في غاية السلبية كما هو معلوم فهو يقول: "الأحزاب المصرية هي سيئة هذا الوطن الكبرى، وهي أساس الفساد الاجتماعي" وقد طالب بحلها جميعاً. (3)

ورؤيته لم تكن أيضاً لتجعله يركز على مسألة الصراع على امتلاك القرار السياسي رغم أنه ما كان يهمل دور هذا القرار.غير أنه لم يكن يحس كما يرى قارئه بهذا الفصام المرير عن الأنظمة الحاكمة الذي يحس به كثير من عرب اليوم، وعلى العكس فقد كانت له صداقة مع بعض الأنظمة ولا سيما النظام الناصري وكان معجباً بالنظام السعودي الذي قام على أساس الحركة السلفية المسماة الوهابية، ونعى على بعض المفكرين (وهو بن باديس) أنهم لم يفهموا الفرق بين ابن سعود والإمام يحيى فأنبوا الطرفين على الاقتتال بينهما "كأنما الشيخ لم يتبين عظم النزاع الذي تقف فيه القوى الروحية والمادية في النهضة الإسلامية متجسدة في الفكرة الوهابية، في وجه قوى الانحطاط والتدهور ممثلة في الإمام يحيى" ("وجهة.."-ص93) وإن كان على ما يبدو خاب أمله في تطور المجتمع السعودي كما خاب أمله في تطور تجارب نهضوية أخرى! وليراجع القارئ خيبات أمله التي تظهر في جمل قصيرة في كتب العقود اللاحقة، انظر مثلاً تعليقه عن خيبة أمل الحاج-وأحسبه يتكلم عن نفسه-الذي يصادف حين ينزل في جدة لافتة"هيئة الأمر بالمعروف" فيطرب لها ثم حين يتقدم خطوات يخيب أمله.("مشكلة الأفكار.." –ص90)

وأعتقد أن بن نبي لو عمل في الميدان العام فسوف يعمل في صفوف حركة اجتماعية ليس لها طابع حزبي بل هي حركة عامة تستهدف البناء التحتي ولا تستهدف اجتذاب الأصوات الانتخابية أو الصعود إلى السلطة وقد رأينا في فقرة سابقة أنه ما كان يفضل شكلاً محدداً من الأنظمة السياسية فلا يفاضل بين الجمهورية والملكية والاستبداد المطلق على أساس هذه الصفات بالذات بل على أساس "المضمون الإيجابي" الذي يحدد إن كانت سياستها علم اجتماع مطبقاً أم ضرباً من الأوهام والخزعبلات! ونرى هنا فارقاً لأسلوب بن نبي في التفكير السياسي وفي المفاضلة بين الأنظمة وبعض التيارات المعاصرة التي تصر على تبني شكل معين على أنه "الشكل الشرعي" –مثل شكل "الخلافة"- والفرق في الحقيقة شاسع فبن نبي لم يكن يعتقد أن ثمة إجابة جاهزة على الأسئلة التطبيقية مثل سؤال نظام الحكم، وما كان يرى في شكل نظام الحكم إلا شكلاً فحسب يحدد الحكم عليه من خلال مضمونه الفعلي الواقعي وفاعليته في المسألة المركزية عنده: مسألة النهضة.

ويلفت انتباهنا في فكر بن نبي غياب الحديث عن "الجهاد" تقريباً، فهل كان بن نبي يجهل هذا المفهوم؟

في اعتقادي أن بن نبي كان كما رأى القارئ يجعل من النهضة أساس الحل لمشكلة الحضارة الإسلامية وهو في بداية كتاب "شروط النهضة" يتحدث عن الجهاد البطولي للأمير عبد القادر والقبائل التي انضمت تحت رايته ويلاحظ ملاحظة حزينة على هذا الجهاد:"إنهم كانوا يقاتلون من أجل الخلود لا من أجل البقاء!"(4)

"فعندما برق في أفقنا فرس الأمير عبد القادر في وثبته الرائعة كان الليل قد انتصف منذ وقت طويل ثم اختفى سريعاً شبح البطل الأسطوري كأنه حلم طواه النوم"("شروط.." –ص20)

على أن هذا الجهاد وإن لم يحقق غاية غير الخلود كتب الخلود لشعب مثبتاً قوة الإسلام الروحية التي كانت درعه الذي منعه من الانحلال كما انحلت شعوب أخرى كالشعوب الأمريكية الأصلية.

وأستنتج من هذا أن بن نبي كان لا يرى الجهاد طريقاً يحل بذاته المشكلة الحضارية فأولاً يجب حل مشكلة القابلية للاستعمار أي مشكلة النهضة.على أنني لا يفوتني بالمناسبة أن بن نبي نسب للإسلام بقاء هذه الشعوب فهي نفسها باقية على الإسلام وإن بشكله غير الفاعل ومشكلتها حضارية لا عقدية كما رأينا عند نقده للحركة الإصلاحية وقد وجدت من الواجب الإشارة إلى هذه النقطة:إن مالك لم يخطر على باله-ولا خطر على بال معاصريه-ما خطر على بال الغلاة الذين جاؤوا بعده من عد المجتمعات الإسلامية الحالية مجتمعات جاهلية بل كافرة.

وقد يبدو هذا الرأي( الذي لا يرى في الجهاد الآن حلا)ً انهزامياً-وأعتقد أن هذا الرأي الاستنتاجي لم يصغه هو بهذه الصورة الصريحة-ولكنني أراه في غاية الواقعية وبالذات إذا نظرنا إلى واقعنا الراهن حيث تحولت فكرة الجهاد إلى فخ يكاد يقود الشعوب الإسلامية إلى حتفها.والمكان الوحيد الذي أعرفه لا يمكن فيه إلا المقاومة حتى لو لم يتوفر أي شرط مادي أو اجتماعي أو فكري هو فلسطين التي يواجه شعبها خطراً على وجوده الجسدي بالذات والمقاومة مفروضة عليه كخيار إجباري.ولعلي ألاحظ هنا أن المجتمع الفلسطيني قد شهد نهضة داخلية عظيمة ما كان بن نبي إلا ليفرح لها في ظل الانتفاضة.وهذه النهضة الاجتماعية التي حققت أرقى أشكال التنظيم والعلاقات الاجتماعية قلما تتم الإشارة إليها في الدراسات عن الانتفاضة.ولم يؤثر فيها الإفساد المتعمد الذي جاء من الخارج المحتل ومن الداخل السلطوي.

وأعتقد أنه من حسن حظ بن نبي رحمه الله أنه مات ولم يشهد ما جرى في بلاده الحبيبة من مسخ شيطاني لم يشهد له تاريخ الإسلام مثيلاً للفكرة الدينية التي تحولت بشكلها الزائف شيطاناً دموياً مشبوه الأصل والدوافع يغتال عشرات الآلاف من الأبرياء وينشر الرعب تحت خيمة الشيطان الكبرى التي اسمها في عصرنا :"تكفير المجتمع".

وفي اعتقادي أن المسلمين هم بحاجة قبل الجهاد الأصغر إلى جهاد أكبر يكافحون فيه عوامل الانحطاط في ذواتهم وعيوبهم الاجتماعية الهدامة من ذاتية وانعدام روح المصلحة العامة وعشائرية وجهل وكسل وفقدان "للمنطق العملي" مما رأيناه شروطاً للنهضة تقوم بوجودها ولا تقوم بغيابها.

ولنأت الآن إلى السؤال عن السر في قلة تأثير فكر بن نبي في وقت إنتاجه:

في اعتقادي أن هناك من الأسباب ما هو عرضي وما هو جوهري :

الأسباب العرضية تتمثل في صعوبة أسلوبه ووعورة لغته وسوء تركيبها ولجوئه إلى التحليلات النظريةالدقيقة –التي يصوغها أحياناً بمعادلات رياضية!-ولا شك أن كاتباً كهذا لن يكون مشوقاً للقراءة خصوصاً إذا قورن بكتاب يعتمدون على صيغ بسيطة خطابية عاطفية ذات ألفاظ مجلجلة.

وأما الأسباب الجوهرية فأهم ما فيها في نظري السبب الذي أصوغه كما يلي:إن بن نبي جاء في غير وقته!.

لقد كان زمنه زمن السياسة وزمن فكرة أولوية النضال من أجل السلطة على ما عداه وفكرة وجود عامل واحد يحل المشاكل:الاشتراكية أو الوحدة العربية أو تطبيق الشريعة وبناء الدولة الإسلامية.لقد كانت هذه سمة العصر التي كانت كما قلت توحد تيارات الأيديولوجيا العربية باطناً وإن اختلفت بل تناقضت في الظاهر.

وكما يحصل مع الأفكار الأصيلة فإنها يمكن أن تتوارى في الخلفية في حالة كمون في الظروف غير الملائمة لها ثم تبرز إلى السطح مع بروز الحاجة الاجتماعية لها.

والذي أراه أن بن نبي أصبح مطلوباً الآن..لماذا؟

السبب الجوهري أن الأساس الذي قامت عليه الأيديولوجيا العربية في نصف القرن الماضي قد تلقى ضربات قاصمة:

لقد هزم مشروع التغيير من فوق وكما ذكرت ً لنتأمل في التجربة السودانية تحت حكم الإنقاذيين وما جرى لهم، وما جرى لتجربة هي أهم من هذه بعد إذ هي تجربة سلطة صعدت على أكتاف مظاهرات التأييد المليونية:تجربة الثورة الإيرانية..

ولنتأمل فوق هذا في هزائمنا المعاصرة كلها: لقد هزمت سلطتا دمشق والقاهرة في عام 1967 دون أن يكون أقطاب هاتين السلطتين-وخصوصاً السورية- من الفاسدين(وعلى العكس يشهد معاصروا رجال السلطة السورية المهمين أنهم آنذاك من الناحية الشخصية كانوا في غاية النزاهة ونظافة اليد والإخلاص لمبادئهم)

إذن هذا الواقع يفرض العودة إلى السؤال الحضاري..سؤال الفاعلية..سؤال النهضة وهذا هو سؤال بن نبي الذي لم يستمع إليه معاصروه جيداً.

لذلك فالزمان الآن زمانه..

• هوامش:

(1) استندت في كتابة هذا المقال إلى كتب مالك بن نبي التالية والاستشهادات هي منها:

-مالك بن نبي - سلسلة "مشكلات الحضارة"- "ميلاد مجتمع شبكة العلاقات الاجتماعية"- ترجمة عبد الصبور شاهين- إصدار ندوة مالك بن نبي- دار الإنشاء للطباعة والنشر طرابلس لبنان- توزيع دار الفكر بدمشق- الطبعة الثانية-1394ه- 1974.

-مالك بن نبي-سلسلة "مشكلات الحضارة"- "شروط النهضة"- إصدار ندوة مالك بن نبي- ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين- دار الفكر بدمشق-1399ه- 1979.

-مالك بن نبي- مشكلات الحضارة "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي"- ترجمة محمد عبد العظيم علي- مكتبة عمار- القاهرة- ط1-1391ه- 1971.

-مالك بن نبي- "بين الرشاد والتيه"- ندوة مالك بن نبي- توزيع دار الفكر بدمشق- ط1-1398ه- 1978.

-مالك بن نبي- "تأملات"- إصدار ندوة مالك بن نبي- توزيع دار الفكر بدمشق- ط4-1399ه- 1979.

-مالك بن نبي- مشكلات الحضارة -"المسلم في عالم الاقتصاد"- إصدار ندوة مالك بن نبي- دار الفكر بدمشق-1399ه- 1979م.

-مالك بن نبي- مشكلات الحضارة- "وجهة العالم الإسلامي"- إصدار ندوة مالك بن نبي- ترجمة عبد الصبور شاهين- دار الفكر- دمشق-1400ه- 1980م.

-مالك بن نبي-مشكلات الحضارة-"مذكرات شاهد للقرن"-بإشراف ندوة مالك بن نبي-دار الفكر-دمشق-ط2-1404ه-1984م.

(2) وفي اعتقادي أن الترجمة هنا لم تكن تفي بالمعنى تماماً إذ المقصود هو وصف الفرنسيين للشعوب الأصلية في المستعمرات "أنديجين" وقد أصدر بعض الجزائريين آنذاك صحيفة بعنوان "صوت الأنديجين"، وكلمة "الأهلي" ليست كما يرى القارئ مناسبة تماماً كترجمة.

(3) انظر: "مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا "مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي"-"نظام الحكم"-"-مكتبة الإيمان بالمنصورة-1412ه-1992م- ص326-327.

(4) يتطابق تقويم بن نبي هذا ، وبصورة غير متوقعة مع تقويم مفكر عربي من اتجاه مختلف تماماً وهو ياسين الحافظ للمقاومة القومية التقليدية للاستعمار الفرنسي في فيتنام وهي مقاومة انتهت بالهزيمة حتى جاءت الحركة المحدثة التي قادها هوشي مينه.ولا أعرف إلى أي حد حدث الشيوعيون فيتنام حقاً فالحافظ-في كتابه"التجربة التاريخية الفيتنامية" –كان واقعاً تحت تأثير الحماس للانتصارات الفيتنامية الكبرى في السبعينات.ولعله الآن بعد سقوط المنظومة الاشتراكية ما كان سيصدق بنفس الحماس والوثوق أن فيتنام حققت هذا التحديث إذ فيتنام فيما أظن وعلى رغم كفاحها المجيد من أجل طرد الاستعمار الخارجي والوحدة القومية لم تزل في صفوف دول العالم الثالث.والعلاقة في طريقة التفكير وبدون أي تأثير متبادل بين الحافظ وبن نبي تستحق التأمل والدراسة وهي تدلنا على أن الأيديولوجيا عندنا على اختلافها الظاهري تتبع طرقاً متشابهة في التفكير تمليها عليها وحدة المشاكل الواقعية المطروقة والخيارات المحدودة العدد للخروج من هذه المشاكل(من نوع: تغيير سلطة أم تغيير مجتمع؟ جواب واحد للمشاكل المطروحة أم أجوبة متعددة؟ حل تحتي أم حل فوقي؟..وتأمل!)


 
 روابط ذات صلة
· زيادة حول الفلسفة والاجتماع
· الأخبار بواسطة editor


أكثر مقال قراءة عن الفلسفة والاجتماع:
مقدمات في علم نفس الأيديولوجيا


 تقييم المقال
المعدل: 4
تصويتات: 45


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ


 خيارات

 صفحة للطباعة صفحة للطباعة