بوابة الخيمة

editor

الفلسفة والاجتماع في علم نفس الأيديولوجيا(مقتطفات من دراسة)
· عموميات
ليست الأيديولوجيا نظاماًً من الأفكار المجردة بلا روح، يتعامل معها حاملها بحيادية وبرود بل هي أفكار مشحونة انفعالياً تحتوي كل منها على "قيمة عاطفية" معينة، و"المناصر" – وهو في اصطلاحي هنا نصير الأيديولوجيا المقتنع المخلص- يعطي الأشياء والأحداث والوقائع قيمة عاطفية محددة. ووضع الأيديولوجي العاطفي هذا على صحته العامة لا يعني أن شدة الانفعال العاطفي متساوية في أطوار حياة أيديولوجيا معينة فهي تختلف في الشدة الانفعالية "الحماس" بين طور وآخر كما سنذكر بعد قليل.
هناك علاقة بين العاطفة والأيديولوجيا لا تنفصم فلا يمكن في اعتقادي تصور أيديولوجيا تقوم على أساس "عقلي بارد" شأن العلم و الفلسفة أيضاًً إلى حد ما. أستعمل مصطلح "العاطفة" ومشتقاته بالمعنى الذي استعملته في كتابات قديمة(1) والعاطفة هناك هي تحرر انفعال كان محبوساً بسبب الأزمة الاستلابية وقد تحرر نتيجة حدوث ثغرة في جدار الاستلاب.
الاستلاب بالتعريف هناك هو حالة من القناعة الذاتية بالدونية في سلم القيم التراتبي في المجتمع: دونية أخلاقية (شعور بالذنب)، دونية عنصرية (الانتماء إلى تركيب بيولوجي أدنى)، دونية جمالية- طبقية (وضع القبيح-الفقير)، دونية تغلبية (القناعة بصفرية القوة في التغالب الاجتماعي وحتمية الهزيمة) والفرد في ظل هذه القناعة يعيش من الناحية النفسية في "حالة" مؤلمة هي حالة "الأزمة الاستلابية"(بعد قليل يأتي شرح مصطلح "الحالة"). العاطفة في الموضع المذكور (كعواطف "الحب" و "الفرح" و"الحزن" و "الغضب" و"الاحتقار" و "الفخر" و "الشماتة") فسرت بأنها "حالة" موائمة نتجت عن انفراج أو اختراق في جدار الحالة المأزومة التي أسميت "الأزمة الاستلابية".
في عاطفة "الحب" يعيش الفرد الانتقال إلى حالة "الجميل المحبوب،من الطبقة الأعلى" من الأزمة الاستلابية التي هي حالة "القبيح المنبوذ من الطبقة الأدنى".
وفي عاطفة "الغضب" يعيش الفرد حالة المظلوم الذي من حقه أن ينتقم: وهي خروج من حالة مأزومة هي حالة المذنب.
وفي "الحزن" يعيش الفرد حالة المظلوم الذي يستحق أن يعطف عليه وهي خروج من الحالة المأزومة التي هي حالة الآثم الذي يستحق التأثيم.
وفي "الفرح" يعيش الفرد حالة "المتغلب القوي" وهي خروج من الحالة المأزومة التي هي حالة صفري القوة المطلق الضعف الذي لا يمكن أن يفعل أو يحقق شيئاً.
وفي "الشماتة" يعيش الفرد حالة اختلال توازن القوة بينه وبين مرجع المقارنة الذي كان يبدو كلي القدرة عند تغير وضع الأخير باتجاه الضعف وبالذات في النقطة التي ينفضح فيها ضعفه. وفي "الفخر" يحس الفرد أنه في حالة العنصر ا
لأعلى أو السيد. ولعلنا نجد العاطفة النقيضة في تغير الوضع العنصري الذي يسمح للشاعر الجاهلي مثلاً (أو الإسلامي الذي لم يزل يتبنى هذه القيمة الجاهلية كالفرزدق وجرير) بالهجاء القائم على أساس فضح "لؤم" الخصم أي في معنى هذه الكلمة الأصلي دناءة نسبه العنصري.


وفي كل هذه العواطف نميز في النظرية التحليلية ما يلي:
- مفهوم "الحالة" وهي عندي موقف تخيلي معيوش في كل مستويات الوعي من اللاشعور إلى الشعور يتألف من الفرد في محيط الجماعة المعيارية التي ينسب الفرد نفسه إليها ويهمه موقفها منه. وهي في التحليل لا تكون متطابقة مع الموقف الآني الحقيقي بل هي (على ما هو مألوف عند العصابيين) تتعلق بتماه مع وضع سابق مختزن يتم رؤية الوضع القائم فعلاً على أساس أنه هو نفسه هذا المخزون في الذاكرة. والحالات قسمان: الموائم وهو الحالة العاطفية منها المأزوم وهو حالة "الأزمة الاستلابية".
-ونعرف "الدوافع العاطفية" على أنها دوافع للعيش في حالة عاطفية-وهذه هي الدوافع العاطفية الموجبة: وللخروج من الحالة المأزومة-وهذه هي الدوافع العاطفية السالبة.
-والعاطفة هي في التعريف العام "الشعور بإمكانية الانتقال من الحالة المأزومة إلى الحالة العاطفية".
-والحالة المأزومة تتميز بوجود الفرد التخيلي في وضع أدنى منظوراً إليه من وجهة نظر الجماعة المعيارية التي ذكرناها(وضع القبيح:المنبوذ: الآثم: عديم القوة المحكوم عليه بالهزيمة في أي صراع: عديم القدرة على إنجاز شيء..إلى آخره) أما الحالة العاطفية(الموائمة) فتتميز على العكس في وضع تخيلي للفرد إزاء الجماعة المعيارية تعترف له فيه الجماعة بمساواته معها في وضع الأعلى النقيض لما سبق في الحالة المأزومة (فهي هنا تنظر إليه على أنه جميل محبوب قوي فاضل محترم أخلاقياً إلى آخره)
ووجود الدوافع العاطفية عند الفرد أعبر عنه بأنه "حاجة إلى العاطفة" وهذه الحاجة إلى العاطفة تقوم الأيديولوجيا بنقلها من حيز فردي إلى حيز جماعي. والدافع العاطفي يتجلى جسدياً في طاقة محركة تنطلق مع انطلاق العاطفة فيحس الفرد بالانفراج لتحرر هذه الطاقة التي كانت الأزمة الاستلابية تحبسها. تتعامل الأيديولوجيا خصوصاً مع "الدوافع العاطفية" للفرد وهي تقوم "بالبرهنة" على "أحقية" مواضيع معينة (يتماهى الفرد معها ويعد الموقف منها يكافئ الموقف منه هو بالذات) بالاحترام والحب والتزكية الأخلاقية وعلى أحقية مواضيع أخرى (يماهيها الفرد مع الخصوم ويعد الموقف منها موقفاً من الخصوم أنفسهم) بتقييمات معاكسة أي بالاحتقار والتأثيم والكراهية، وبهذا المعنى تشكل الأيديولوجيا بلا ريب خزان "البراهين" الذي تمتح منه شريحة اجتماعية معينة لتبرير وضعها وجعله مقبولاً في سلم القيم التراتبي العام.
وتهتم الأيديولوجيا أساساً بوقائع اجتماعية حساسة يدور حولها الصراع الاجتماعي و"المواضيع الحساسة" هي المواضيع القابلة للتغير والانفعال العاطفي الذي يشحن الموقف الأيديولوجي من هذه المواضيع التي هي قابلة للتغير يكون إما سلبياً(ضد التغير) أو إيجابياً(مع التغير).
هذه المواضيع الحساسة هي التي تكون عادة مشحونة عاطفياًً فهي "محبوبة" أو "مبغوضة" أو "محتقرة" أو "سارة" أو "محزنة" أو "مثيرة للغضب" أو "مثيرة للفخر"..إلى آخره. والشحنة العاطفية هي الطاقة المحركة التي تتحرر في الحالة العاطفية كما ذكرت.
ولا بد هنا في ختام هذه الملاحظات النظرية العامة عن سيكولوجيا الأيديولوجيا من ملاحظتين:
أولاً لا يعني هذا التحليل أن الأيديولوجيا في كل ما تقوله وتدعو إليه هي مجرد ضلال أو هذيان مرضي إذ يمكن أن يكون فيها قسط يزيد أو ينقص من الحقيقة والمواءمة الصادقة مع الأخلاق.
ثانياًً: ليس كل ادعاء يلبس شكل الأيديولوجيا (أي مثلاً شكل التبرير الأخلاقي) هو أيديولوجيا حقيقية فالأيديولوجيا الحقيقية تتميز بإيمان المناصر الحقيقي الصادق بها ولكن عندنا ادعاءات للسياسيين في العصر الحديث تكذبها التجربة اليومية وهي لا تنم عن قناعة بل هؤلاء ممن طلق أصلاً المبادئ والقناعات منذ قرر احتراف السياسة فتصريحاته الأخلاقية الزائفة التي يعرف هو قبل غيره أنها ادعاءات بالاقتناع وليس اقتناعاً حقيقياً لا نسميها أيديولوجيا بل هي انتحال للأيديولوجيا وهذه حال الغالبية الساحقة من محترفي السياسة في الغرب والشرق ولا أكاد أعرف من السياسيين الحديثين من لا ينطبق عليه هذا الحكم إلا حفنة قليلة منهم مثلاًًًً في اعتقادي المهاتما غاندي.
فإذا قال السيد جورج بوش مثلاً إن حكومته تمثل "الخير" فهذا ادعاء هو أول من يعرف أنه مجرد كذب لا تكذبه تجربة شعوب فيتنام وفلسطين وهيروشيما فحسب بل يكذبه أولاً أحرار الولايات المتحدة أنفسهم وتكذبه منظمات المجتمع المدني الأمريكي قبل غيرها (ومثال آخر على ذلك الموقف المتناقض من مجازر مخيم جنين بين منظمة "الهيومان رايتس ووتش" الأمريكية والسيد كولن باول الذي قال إنه لا دليل على مجازر :وهو يعني أن سياسة حكومته أنها لن تقر بوجود مجازر! والانفصام بين السياسة والأخلاق الذي يعد عند هؤلاء بديهية ويعدون من يدعو إلى الأخلاق في السياسة طفلاً غريراً ساذجاً هي التي تهدد بحق في أن تقود البشرية إلى كارثة قاضية على العالم) وادعاؤه هذا لا يؤخذ على أنه قناعة إلا إذا سمينا قانون الغاب "خيراً" وعددناه هو المعيار للخير!
· المناصر في وضع الثبات ثم بعد التغير:
لنتكلم أولاً عن المناصر المستقر في قناعاته بأيديولوجيا معينة:
إن الأيديولوجيات الاجتماعية في مجتمع مختلف الأيديولوجيات لا تخوض مع الأيديولوجيات الأخرى "حوار الطرشان" مبدئياً فثمة قيم عامة متفق عليها يتم التنازع فقط على "تعيينها" أي تجسيدها بواقعة عينية ملموسة.
فلا خلاف بين الرأسمالي والاشتراكي على أن "العدل" كقيمة مجردة مطلوب وأنه شيء إيجابي وعلى أن "الظلم" كقيمة مجردة مرفوض وأنه شيء سلبي ولكن الخلاف ، بل التناقض بينهما هو على "التعيين" لهاتين القيمتين.
فوجود نظام الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هو العدل عند مناصر الأيديولوجيا الرأسمالية المقتنع وهو الظلم عند الاشتراكي المقتنع.
وتقوم كل من الأيديولوجيتين "بالبرهان" على صحة التعيين الذي تبنته. وبنقض براهين الخصم و"إثبات" خطئها بطرق مختلفة – ليست جميعها طبعاً طرقاً بحثية أكاديمية بل لا تكاد تشغل هذه الطرق قيمة تذكر بالقياس للطرق الانفعالية الحدسية المستندة إلى ذكر وقائع عادة ما تكون ناقصة وإلى البراهين اللفظية وإلى آخر الطرق غير المستندة إلى "البراهين" بحصر المعنى أي الاستنتاجية المنطقية أو الاستقرائية التجريبية.
لنفترض المناصر في الوضع الأيديولوجي المستقر أ-1. إن هذا الاستقرار يتضمن من الناحية النفسية مجموعة م1 من المواضيع الثابتة المشحونة انفعالياً وهي تخص كل المواضيع الحساسة التي تشكل مدار الصراع على الوضع الإيجابي في بنية التراتب الاجتماعي المتعدد المستويات : أعدد في العادة أربعة مستويات هي المستوى الأخلاقي والمستوى الجمالي – الطبقي والمستوى العنصري والمستوى التغلبي.
لنفترض الآن أن الفرد تغيرت قناعاته الأيديولوجية وأصبح في الوضع أ-2. لا شك أن هذا التغير سيغير من طبيعة الشحنة الانفعالية لمواضيع حساسة تراتبياً وستتألف المجموعة الجديدة من المواضيع الحساسة المشحونة انفعالياً م2 من عناصر جديدة كلياً لم تكن مشحونة سابقاً – أي كانت محايدة انفعالياً ومن عناصر مشحونة من المجموعة السابقة تغيرت إشارة شحنتها من موجب إلى سالب وبالعكس، ومن عناصر مشحونة من المجموعة السابقة احتفظت باتجاه شحنتها.
ليس "الوضع المستقر" أ-1 وضعاً ابتدائياً إلا بالنسبة لما بعده وإلا فهو أيضاً وضع له تاريخ وأوضاع سبقته والناس الذين يجدون أنفسهم ظاهرياً في الوضع نفسه كثيراً ما يكون لهم تاريخ مختلف من التغير الأيديولوجي.
تحت مظلة الأيديولوجيا الواحدة يوجد أناس حافظوا على اتجاه شحن قديمة لموضوعات شحنت في وضعهم السابق ولم تتصادم مع الغطاء الواسع للوضع الأيديولوجي الجديد كاليساري الذي انقلب لبرالياً من ناحية دفاعه عن الحريات السياسية والنظام الانتخابي الحر ولكنه ظل محافظاً على تعلقه العاطفي الإيجابي بفكرة الملكية العامة لوسائل الإنتاج فهو يوجد في الموقع الأيديولوجي الذي يوجد فيه لبرالي يدافع أيضاً عن الحريات السياسية والنظام الانتخابي الحر ولكنه جاء من موقع نصير للنظام الرأسمالي الذي يبغض فكرة الملكية العامة لوسائل الإنتاج.
كنت في قبل قليل قد أشرت قد تحدثت عن حاجة الفرد إلى العاطفة وهذه الحاجة هي التي تجعله لا يتخلى عن التثبيتات العاطفية القديمة بتلقائية فلا بد من تغير المجموعة الكبيرة من التثبيتات أي من الشحن الانفعالية من نوع واتجاه معين لكل واقعة على حدة من وقائع المجتمع الحساسة التي يستخدم الفرد الأيديولوجيا لتبرر موقفه العاطفي منها. وبقاء تثبيتات قديمة لم تدخل في صراع مع الموقع الجديد لأنها غير مرتبطة بما تغير من مواقف علاوة على الاستمرار التلقائي لمفاهيم وعادات قديمة لعدم الشعور بالتناقض ولأنها ليست وقائع حساسة لا بد للمناصر من اتخاذ موقف حاسم منهاأو – أخيراً – لأن الفرد مقتنع بها عن وعي يفسر اختلاف الأفراد الذين من المفترض أنهم يشغلون نفس الموقع الأيديولوجي بين بعضهم في التفاصيل.
كنا نرى عندنا يساريين يؤيدون بحماس فكرة تحرير المرأة ويساريين آخرين حافظوا على شكل من العلاقة مع المرأة هو بالنسبة للأيديولوجيا الحديثة لتحرير المرأة لا يمكن تصور أن يتبناه يساري إذ هو عند هذه الأيديولوجيا متخلف ومتحجر والاختلاف بين اليساريين في هذه النقطة يمكن تفسيره على ضوء ما تقدم.
ومن ذلك أيضاً الاختلافات التي لاحظتها بين اليساريين في موقفهم من الكادحين فليس كلهم –كما ينتظر من الاتجاه اليساري- يحترمون الفقراء ولا يحتقرونهم وهذا ما يتبدى خصوصاً في الساحة الفلسطينية فقد لاحظت أن عدداًً كبيراً من المحازبين في اليسار الفلسطيني لا يختلف موقفهم الاحتقاري من الكادحين عن موقف الأيديولوجيا المسيطرة الذي يميزه الإيمان العميق بأن الفقرسبب مبرر للاحتقاروهذا بخلاف المفترض في الأيديولوجيا اليسارية التي تقوم على فكرة مناصرة الكادحين والعداء للتفاوت الطبقي. ومن ملاحظاتي أيضاً على هؤلاء أنهم نادراً ما كان عندهم مقدرة على الزهد في مغريات الحياة المترفة البرجوازية (انعدام المقدرة على الزهد عندنا في الساحة الفلسطينية كان سمة مشتركة بين "المناضلين" يميناً ويساراً!) وليس هنا العجب بالذات بل العجب هو أنهم كما يبدو لا يعرفون حتى أن هذا يتناقض مع يساريتهم المفترضة.
ولو درسنا هذه الحالة بتأمل لأمكن لنا أن نعيدها جزئياً على الأقل لتاريخ تغير تلك الشريحة أيديولوجياً وانتقالها إلى الموقع اليساري، فقد كان اليسار في النصف الثاني من الستينات موضة عالمية من جهة فلم يكن تبنيه إذاً نتيجة لتبن حقيقي عميق لنظرية الصراع الطبقي العتيدة ومن جهة أخرى فقد كان ما يجذب هؤلاء خصوصاً عندنا هو تجارب ما دعي آنذاك بحركات التحرير الوطني التي كانت تقودها حركات يسارية كما في الصين وفيتنام ولم تكن التجارب التي أرادوا تقليدها تجارب حركات يسارية تهتم أساساًً بمسألة الصراع الطبقي.
ولذلك ولفهم الموقع الأيديولوجي الحقيقي للفرد بتفاصيله لا بد من أخذ مجمل "تعييناته" النفسية للمواضيع بعين الاعتبار.
· تعيينات أيديولوجيا التأصيل:
ويمكن أن نأخذ مثالاً آخر على اختلاف التعيينات بين المنتمين ظاهرياً إلى الخيمة الأيديولوجية نفسها من تلك الأيديولوجيا التي تدافع عن الهوية أي أننا نفترض الآن وجود هذه الأيديولوجيا في موضع الأيديولوجيا المستقرة الابتدائية أ-1 وتتميز هذه الأيديولوجيا بشحن جميع الوقائع المؤثرة في مسألة الحفاظ على الهوية أو زوال الهوية بشحنة انفعالية إيجابية لما يعزز هذا الحفاظ وسلبية لما يهدده.
والمشاهد في الواقع أن الشرائح والأفراد المنحازين لهذا المعسكر الأيديولوجي مختلفون في التفاصيل وهذا أمر متوقع كما رأينا قبل قليل. منهم من انطلق في اتجاهه هذا من منطلق ديني.
كاتب هذه السطور يؤمن بأن الدين ليس أيديولوجيا بل هو يؤمن بان الدين عقيدة صحيحة موحاة من الله عز وجل ولكن البشر يؤولونها ويستخدمونها استخدامات تصيب وتخطئ مقاصد الشارع وحين تدخل الشريعة باب التأويل وتختلط بأفكار موروثة من التاريخ وأخرى ناتجة عن الصراعات الاجتماعية بين شرائح مختلفة فعندها تلبس الأيديولوجيا ثوب الدين وعند هذه النقطة ينطبق على هذه الأيديولوجيا ما انطبق على غيرها من أيديولوجيات من قوانين سيكولوجية.
ومنهم من انطلق من منطلق الخوف من الجديد ومنهم من انطلق من قناعة بأساسيات البنية الثقافية المحلية وأنها خير من البدائل المهددة لها. وهناك في هذا المعسكر فروق بين المواضيع الحساسة وتلك المحايدة وفي اتجاه شحن بعض الوقائع أيضاً.
مثلاً لا يعتبر استيراد التكنولوجيا موضوعاً حساساً عند التيار الديني بل هو ذو شحنة إيجابية على الأغلب على حين يكون هذا الموضوع محايداًًًًً أو سلبياًً عند من ينطلقون في دفاعهم عن الهوية من منظور كراهية التجديد فحسب وقد يكون بالنسبة لبعض المثقفين الذين درسوا بعناية التجربة الغربية ومخاطر التكنولوجيا الحديثة على الطبيعة والإنسان مشحوناً بشحنة سلبية.
· العواطف في الأيديولوجيا العربية المعاصرة
-من أين يأتي الحماس؟
حين يستقر النظام الاجتماعي لفترة طويلة، وتعمل آلته بصورة منتظمة، تفقد الأيديولوجيا المسيطرة عنصر الحماس عند المناصرين، بل يصاب حتى بعض الأيديولوجيات غير المسيطرة بعدوى "الركود العاطفي" كما رأينا مثلاً حالة الشيوعية الأوروبية التي تحولت إلى أيديولوجيا إصلاحية ضعيفة الإشعاع لا يتمتع أنصارها بذلك الحماس المتأجج للشيوعيين في بلاد أخرى، فما أبعد الفارق في الحماس مثلاً بين الشيوعيين الفرنسيين في الستينات من القرن العشرين الميلادي و حماس زملائهم في الفترة نفسها في فيتنام أو الصين أو أفريقيا و آسيا وأمريكا اللاتينية.
ولو أحببت أن أرجع إلى "النظرية العامة للعاطفة" فسأقول إن العاطفة تظهر وتتأجج في نقاط التحول في الحالة الاستلابية: حين تبرز ثغرة في جدار "الحالة المأزومة" من هنا فإن العاطفة تميز طبيعياً وضع التحول. وفي الحقيقة إن لحظات الانعطاف في الحالة الاستلابية من الحالة المأزومة إلى الحالة الملائمة أي الحالة العاطفية وبالعكس تترافق مع انفعالات تكون من نوع مريح وهي انفعالات العاطفة أو نوع مؤلم وهي انفعالات الأزمة الاستلابية. وأمثل على ذلك لإيضاح هذه الفكرة بيوم إعلان نتائج الامتحانات بالنسبة للطالب فهو من الناحية الانفعالية ليس يوماً عادياً ففيه نقطة انعطاف في الحالة فإن نجح كان الانعطاف إلى حالة ملائمة وظهرت عاطفة الفرح وإن لم ينجح كان الانعطاف إلى حالة غير ملائمة وهي وفقاً لتحليلي حالة الأزمة الاستلابية التغلبية التي نعبر عنها بلغتنا العادية بأزمة في الثقة بالنفس أوبالقدرات الذاتية.
ولا تنبثق عاطفة الفرح بعد النجاح في المدرسة كل يوم بل تنبثق في لحظة إعلان النجاح أو في لحظة تقديم الامتحان بشكل جيد، أما بعد ذلك فيتم الانتقال إلى الحالة الجديدة بانشغالاتها الخاصة، وربما بأزمات تعتري هذه الحالة من نوع آخر.
الأيديولوجيا تؤجج الحماس (وهو اسم آخر للعاطفة) في نقاط التحول الاجتماعي، وهذا الحماس يدفع الأفراد إلى بناء الحالة المطلوبة (الطوبى الأيديولوجيا) والدفاع عنها في وجه أعداء نشوئها واستمرارها. وفي أوضاع التحول يكون خطر الارتداد للمرحلة السابقة كبيراً وشعور الأفراد بهذا الخطر يكون أيضاً كبيراً لأن ذكريات المرحلة السابقة لم تزل في الأذهان ومن هنا تعمل المؤسسات الأيديولوجيا بجهود مضاعفة في هذا الوضع للدفاع عن الجديد ومهاجمة القديم.
والزمن كما نعلم هو عدو الحماس، فإذا حدث التغيير واستقر تضاءل الحماس من جهة لأنه لم يبق خطر على الجديد ومن جهة أخرى لخفوت الذكريات عن القديم ومن جهة ثالثة لظهور أزمات جديدة خاصة بالوضع الجديد وقد تبعث الحنين للماضي
· في عواطف الأيديولوجيا العربية الحديثة:
"الحب" اللبرالي لأوروبا:
كان آلبرت حوراني قد سمى ما يسمى عادة عصر النهضة "العصر اللبرالي" في كتابه المشهور "الفكر العربي في العصر اللبرالي" الذي ترجمت دار النهار عنوانه "الفكر العربي في عصر النهضة" وفي الحقيقة تعد تسمية حوراني أدق من ناحية إظهار طابع الأيديولوجيا العربية التي هيمنت على ذلك العصر فهي أيديولوجيا معجبة باللبرالية الغربية من جهة وتريد استيراد النظام اللبرالي السياسي وتطبيقه في بلادنا من جهة أخرى، ثم هناك الجهة الثالثة التي قلما يجري الحديث عنها: إن اللبرالية العربية عتمت على الجانب العدواني والعنصري الاستعماري في الأيديولوجيا اللبرالية الغربية بحيث تحولت التجربة اللبرالية الغربية إلى "جمال خالص" في كل أبعادها وإلى "خير خالص" بالتداعي.
حين نقول "العصر اللبرالي" إذاً فإننا نصف هذا العصر وصفاً أدق من هذا الوصف العام غير الدقيق والمشحون مع ذلك بقيمة إيجابية: "عصر النهضة".
"الجميل جمالاً خالصاً": هكذا يجب أن يكون المحبوب! ولنرى كيف يصف حوراني الشيخ رفاعة الطهطاوي رائد اللبرالية العربية: "كان يقيم في فرنسا أبان احتلال الجزائر فكتب عن هذا الحدث في كتابه عن باريس. غير أنه لم يعتقد أن هناك معنى للقول بأن أوروبا خطر سياسي، ذلك أن فرنسا و أوروبا لم تسعيان، في نظره وراء القوة السياسية والتوسع، بل وراء العلم والتقدم المادي" (2)
وإذا كان الطهطاوي لم ير الطابع العنصري للأيديولوجيا اللبرالية الفرنسية آنذاك مع أننا نراه الآن واضحاً كل الوضوح ومر على واقعة الاحتلال الفرنسي للجزائر مرور الكرام أو المغفلين، فإننا قد نعذره لحداثة تجربته بأوروبا وإن كنا في الحقيقة يمكن لنا أن نتكلم كثيراً عن السبب الذي جعل الطهطاوي لا يستنتج نتائج تذكر من تجربة مصر مع الحملة الفرنسية التي كانت حديثة العهد. نحن مع الطهطاوي إذاً لا نقول بعد: "الحب أعمى"! ولكنه بالفعل أسس لهذا العمى أو هو على الأقل لم يضع أي عائق في سبيله.
عمى الحب الحقيقي الذي لا يمكن الدفاع عنه بحال سنراه مع اللبراليين اللاحقين الذين شهدوا استعمار بلادهم بأم أعينهم وشهدوا تقاسم البلاد الشقيقة بين بريطانيا وفرنسا، ثم شهدوا فضح البلاشفة لاتفاقية سايكس بيكو ونقض الحلفاء لعهودهم، ومع ذلك ظلت أوروبا عندهم "منبعاً للخير والجمال". إن غفلة كتاب اللبرالية العربية في النصف الأول من القرن العشرين عن الطابع العنصري للبرالية الغربية والطابع الوحشي للاستعمار لعجيبة حقاً: حتى العقاد الذي لا يوضع عادة بلا تحفظ في عداد "المغربين" ذكر لكرومر حسنات حتى بعد جريمة دنشواي! وأخذ موقفاً شديد التحفظ من مصطفى كامل وحزبه الوطني. أما الشيخ محمد عبده فعاد عن مواقف أستاذه الأفغاني المعادية للاستعمار والداعية للوحدة ليتحالف مع الإنكليز ضد الخديوي عباس الثاني وأما غفلة كاتبين كبيرين من العصر اللبرالي هما طه حسين وتوفيق الحكيم فتلفت النظر مثلاً لا نكاد نجد حتى في رواية عودة الروح التي يفترض فيها أنها عن ثورة 1919 ضد الإنكليز نقداً عميقاً شاملاً للظاهرة الاستعمارية فكل ما فيها كان حديثاً عن وحدة المصريين وراء "المعبود" والذي نطق باسم المصريين، وهذه نقطة أراها في غاية الدلالة، لم يكن واحداً منهم بل كان آثارياً فرنسياً تنبأ لهم بأنهم سيتحولون إلى شعب صناعي متوحد لا يعرف شغب المطالب الطبقية وصراع الطبقات.
وحين غزت إيطاليا ليبيا وقامت في مصر حركة مساندة لها وقف لطفي السيد ضد هذه الحركة معتبراً أنه ليس من مصلحة مصر الوقوف مع ليبيا والدولة العثمانية ضد إيطاليا.
الإعجاب اللاهب بفرنسا سيتردد في مؤلفات الحكيم اللاحقة من "زهرة العمر" إلى "عصفور من الشرق" إلى "مصر بين العهدين" وفرنسا التي وصفها شوقي حين قصفت دمشق بقوله:
وللمستعمرين وإن ألانوا.. قلوب كالحجارة لا ترق!
لم تظهر صورتها هذه عند كتاب العصر اللبرالي العربي الكبار بل ظلت دوماً "بلد النور والحضارة".
وهذه الغفلة عن الطابع العرقي للأيديولوجيا السائدة في الغرب في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، هذه الأيديولوجيا التي كانت تتغلل حتى في قطاع الدراسات التاريخية والأدبية (كما رأينا في نظريات رينان التي كانت سائدة ومصادقاً عليها من قبل الباحثين العرب أيضاً) استمرت حتى الآن في ذلك القطاع المتصل بالثقافة الأوروبية إما اتصالاً مؤسسياً عبر التعاون مع مؤسسات ثقافية أوروبية و إما اتصالاً فكرياً محضاً عبر العب من معين الكتابات الأوروبية مباشرة أو عن طريق الترجمة.
يقال عندنا في وصف لوضع شبيه "كالأيتام على مأدبة اللئام" ولأجل مزيد من الدقة في الشبه سأقول إن وضع هؤلاء المثقفين العرب لا يشبه وضع أي أيتام كانوا ولكنه يشبه وضع الأيتام على مأدبة أناس يحتقرونهم ولكن هؤلاء الأيتام يتخيلون أنفسهم مدعوين أصيلين ومشاركين في المائدة بل هم جزء من أهل البيت!
فالعرب لا يكاد يعترف بنتاجاتهم في الغرب مهما أظهروا الحماس والولاء للمدارس الفكرية والفنية الغربية وهم لا يعترف بهم هناك إلا في حالة خاصة لا تشرف هؤلاء المثقفين هي حين يدعون للشهادة ضد ثقافتهم المحلية! في الأوساط الثقافية الغربية السائدة المثقف العربي الوحيد المقبول هو المثقف الذي يقوم بدور "الشاهد على أهله" بأنهم دونيون، متخلفون، مضطهدون للنساء إلى آخره.
وهكذا مثلاً نجد رواجاً لترجمة كتب الكاتبات العربيات اللواتي يهجين المجتمع المحلي ويغمزن من قناة قوانين الشريعة وليت هذه الكتب تترجم بنصوصها الأصلية فهي تحور وتوضع لها العناوين الجديدة ويعاد ترتيب فصولها كما جرى لكتاب الدكتورة نوال السعداوي "الوجه العاري للمرأة العربية" الذي أصبح في الترجمة الإنكليزية "الوجه المخفي لحواء"!
تحدثت الأستاذة "جنين عبوشي دلال" أستاذة الأدب المقارن والدراسات شرق الأوسطية في جامعة نيويورك عن ما جرى لترجمة هذا الكتاب في بحث نشرت مختصره في ملحق التايمز الأدبي في 24-4-1998 ونشرته بالعربية في الآداب البيروتية بعنوان "الثقافة العالمية- المعولمة وسياسات الترجمة".
تقول الأستاذة عبوشي دلال: "العنوان العربي الأصلي لThe Hidden Face of Eve هو في الواقع "الوجه العاري للمرأة العربية" وقد صدر الكتاب عام 1977 (وسيكون محالاً بالطبع أن يربط كتاب يصدر بالإنجليزية المرأة العربية بالعري، وكأن كل الكتب عن النساء العربيات لا بد أن تتضمن عناوينها شيئاً عن "الحجاب") وتبدأ الترجمة الإنجليزية بفصل عن ختان الإناث، وهو فصل لا وجود له في الأصل العربي. كما أضيفت إلى هذا الفصل عناوين فرعية اخترعها المترجم أو الناشر، مثل "النصف المشوه" (أو المجذوع) The Mutilated Half وراحت الترجمة الإنجليزية تضيف فصولاً وتشطب فصولاً وتعيد ترتيب فصول بأكملها من الأصل العربي دون أي تفسير على الإطلاق. بل ثمة اثنا عشر فصلاً يمكن أن تقوض من التصورات السائدة في الغرب عن النساء العربيات قد شطبت برمتها من الترجمة" وتضيف الأستاذة عبوشي دلال: "ليس ثمة من يريد أن يسم شيئاً عن دفاع السعداوي عن الإسلام ولا شيئاً من تعليقاتها الاشتراكية أو آرائها في النساء العربيات حين لا تعزز هذه الآراء التنميطات الغربية عنهن" وفي البحث المذكور تعرض لنا الباحثة وضعاً رائجاً هو "التأليف من أجل الترجمة" فحتى حين يكتب الكاتب عمله بلغته الأم نجد في النص ما يدلنا على أنه كتبه وعينه على المترجم الغربي ويظهر هذا بوضوح مثلاً في شرح أشياء لا يلزم شرحها للقارئ المحلي بينما شرحها ضروري للقارئ الغربي وفي المقابل تذكر استشهادات غربية بلا شرح على حين كان القارئ المحلي بحاجة إلى شرحها. وباختصار أغلب المترجمات عن الأدب العربي ليست وظيفتها تغيير الأفكار النمطية الغربية عن العرب بل تثبيتها وتأكيدها واحتقار العرب كما كان يتجلى في عدم المبالاة بذكر الأكاذيب والمعلومات المغلوطة عنهم على اعتبار أنهم غير موجودين للتصحيح وغير مهمين لمراعاة شعورهم فإنه يتجلى بشكله الاستلابي عند الكاتب الذي يكتب من أجل الترجمة، لذلك يصل الاستهتار ببعض هؤلاء إلى الكذب في بديهيات الشريعة، مثلاً من بديهيات الشريعة كما فعل الطاهر بن جلون في عمله المترجم "طفل الرمال" L,enfant de sable فالراوي بعد أن ينجب عدة بنات يعلن مولودته السابعة صبياً ويسميها أحمد مفسراً ذلك هكذا "أنتم لا تدركون يا أصدقائي وشركائي أن ديننا لا يرحم رجلاً بلا وريث. إنه يحرمه الميراث لصالح إخوته في حين لا تحصل البنات إلا على ثلث الميراث فقط" وتعلق جنين عبوشي على هذا الافتراء الذي يزعم أن الأب إن مات لا يرثه من الأبناء إلا من كان عنده أبناء ذكور وأن البنات يرثن الثلث والأبناء الثلثين بالقول: "وبكلمة أخرى يخبرنا الراوي أن قرار الأب إعلان مولودته السابعة صبياً يحصل بفضلها الأب على حصته من الإرث لكن الشرع الإسلامي في الحقيقة ومن الناحيتين النظرية والعملية لا يحرم رجلاً أنجب البنات دون الأبناء من الإرث بل يعطيه الحصة التي ينالها أخوته سواء بسواء في حين يعطي البنات نصف حق الذكور (لا ثلثه!) فكيف ترانا نصف ادعاء الراوي في هذا السياق؟ أنقول أنه شرع إسلامي متخيل fictionalized؟"
ولعل القارئ يذكر هنا بالمناسبة النسخ الحرفي الذي يقوم به كتاب مسلسلاتنا وأفلامنا لوقائع اجتماعية غربية لا توجد في الشريعة عندنا من نوع أن الميراث تحدده حصراً وصية المتوفي!
من الواجب في هذا السياق ذكر تيار هامشي في الغرب يتألف من عدد من الفاعلين الثقافيين النقديين الذين يناضلون في سبيل تغيير القاعدة العنصرية الاستعمارية التاريخية التي لا تزال لها تأثير مهم في الثقافة الغربية ولا شك أن هذا التيار يجب العمل معه وتشجيعه لأننا في النهاية نريد كرة أرضية يتفاهم بشرها على أرضية إنسانية عادلة ولسنا مع حروب استعمارية أو حضارية تستمر إلى ما لا نهاية أو إلى فناء البشرية!
العصر اللبرالي العربي أغفل كما قلت هذا الوجه السلبي المؤثر للبرالية الغربية وقد ركز على هذا الطابع في عصر المد القومي واليساري ولكن الآن مع العصر الجديد عاد المثقف الحداثي العربي إلى إغفال العنصرية الغربية والولاء غير النقدي للثقافة الغربية السائدة وتفضيلها على الثقافة الشعبية المحلية وقسم لا بأس به من اليسار العربي تحول من الولاء للمركز السوفياتي إلى الولاء للمركز الأمريكي على حين بقي قسم آخر على نظرته النقدية للثقافة الغربية السائدة وتحالفه مع الثقافة الغربية المعارضة للعنصرية والنزعة الاستعمارية والمؤيدة لعلاقات عادلة بين الشمال والجنوب.
ولنعد إلى تحليل علاقة الحب بين اللبرالية العربية واللبرالية الغربية الذي يصل إلى حب للغرب بكل ما فيه، بخيره وشره وحلوه ومره وفقاً لتعبير شهير لطه حسين.
لا بد لظهور عاطفة الحب من "الشعور بإمكانية الاندماج بالمحبوب"، وهو الاندماج المتضمن بمعناه اللاشعوري الانتقال إلى الحالة المأمولة التي يعيش فيها المحبوب،إذ المحبوب كما افترضت سابقاً هو "ممثل" لهذه الحالة أو هو يشخصها.
والحال أن "إمكانية الاندماج" توصل اللبرالي إليها "استيهامياً" (إذا استعرنا هذا المصطلح من أدبيات التحليل النفسي) عبر تقاليد الصفات المظهرية للمحبوب وتقمصها (كما وجدنا عند الحكيم في إعجابه الكبير الذي يحرص على وصفه لنا بالموسيقى الكلاسيكية الغربية وحرصه الدائم على الاستماع إليها ولو عبر الدخول إلى غرفة الجار الأوروبي بغير إذنه!-راجع "عدالة وفن"-) ثم عبر تكبير الإيجابية الموهمة بقبول المحبوب للمشروع الدمجي للعاشق وتصغير أو إسكات الإشارات المعاكسة كما جرى في حالة الواقعة العنصرية التي تعامل معها المثقف العربي المعجب بالغرب اللبرالي بإحدى طريقتين:إما بأوالية نفسية(ميكانيزم) تذكرنا بأوالية دفاعية موصوفة في أدبيات التحليل النفسي اعتباراً من آنا فرويد هي "أوالية الإنكار" أي إخفاء الواقع وإنكار وجوده، وإما بأوالية أخرى هي الحياد الذي تخرج فيه الذات نفسها من الموضع المؤلم عبر الانقسام إلى قسمين: قسم منبوذ هو العائش التجربة المؤلمة وقسم محايد يراقب (ويتماهى بهذا مع الأعلى النابذ الذي حكم بالدونية على الذات الأصلية وهو المرجع الاستلابي)
وهذه الأوالية الأخيرة لا بد في اعتقادنا من افتراض وجودها إذا أردنا أن نفسر كيف تعامل كتاب كبار مثل المازني وأحمد أمين وغيرهما مع "نظرية علمية" كانت من مسلمات العصر اللبرالي العربي لأنها كانت من مسلمات العصر اللبرالي الغربي وهي النظرية التي ترى في الثقافة بنية فوقية تعبر عن بنية تحتية هي الوراثة البيولوجية(العرق) وهذه النظرية كانت سائدة ومنطوقها الملموس يقول إن العرق الآري يمتلك بطبيعته البيولوجية خواص ثقافية لا يمكن لأعراق أخرى وفي حالنا "العرق السامي" أن يمتلكها.
هكذا وجدت الصفات الفنية لشعر ابن الرومي تفسيرها في كونه رومياً أي آرياً عند المازني في دراسته عن ابن الرومي!وهكذا تحدث أحمد أمين في الجزء الرابع من "ظهر الإسلام" عن الفرق بين الأدب الصوفي العربي والأدب الصوفي الفارسي:الساميون أقوياء الحس ضعاف الخيال أما الآريون فواسعو الخيال وهم أقدر على تصوير خلجات النفوس على حين الساميون أقدر على تشبيه ظواهر الأشياء!
العاشق لا ينسب "جمال" أو "رقي" المحبوب إلى صفة واحدة أو صفات محددة فيه بل ينسبها إلى كل ما فيه من صفات مميزة عن بقية البشر حتى لو كانت هذه الصفة أنه يرتدي القبعة وهذا تفسير لجوء أتاتورك إلى إلغاء الطربوش وتقرير القبعة مكانها! ويفسر لماذا كانت هناك مساعي محمومة من بعض "النهضويين" العرب لإلغاء الأحرف العربية وإحلال اللاتينية مكانها ولماذا يستاء المثقف العربي من المميزات الخاصة للموسيقى العربية التي تميزها عن الغربية كعدم وجود التوافق الهارموني واعتمادها على الصوت البشري ويستاء من فقدان التماثيل والتصوير للحيوانات وغياب المسرح في التراث إلى آخره..ولإزالة التمايز يجب استيراد كل صفات الآخر كما استورد الخديوي عباس الأوبرا وكما تحمس طه حسين (وهو كفيف) لاستيراد فن الباليه (المتناقض بالمناسبة بصورة واضحة مع المقرر للثياب المقبولة شرعاً!)
الصفات التي جعلت المحبوب "جميلاً راقياً" هي الصفات التي ينفرد بها عن بقية الخلق ،ورؤية العاشق هذه لا تتعلق طبعاً بالمكونات الفعلية لهذا المحبوب العتيد فهي تتعلق بما أدركه العاشق وهو إدراك مجتزأ فيه أخطاء وأوهام والمحلل الثقافي يستطيع إن شاء أن يرى الحجم الكبير من المعلومات الخاطئة عن الغرب وثقافته الذي كان موجوداً عند المنبهرين العرب.
هوامش
(1) نشر جزء مختصر شامل منها بعنوان "النظرية العامة للعاطفة" في كتاب مشترك مع الدكتور حسين شاويش ، ونشرت الكتاب دار الكنوز الأدبية في بيروت عام 1995 بعنوان"حول الحب والاستلاب – دراسات في التحليل النفسي للشخصية المستلبة". وقد حالت ظروف المنفى القسري دون تصحيح مسودات الطبع ودون الموافقة على النسخة النهائية التي جاءت على طريقة الجيل العربي الحديث الشكلي:أنيقة حافلة بالأخطاء ورفضت الدار توزيع التصحيحات التي دققها الأخ حسين مما حد من مقدرة القارئ على قراءة هذا الكتاب الذي كان في تقديري محاولة عربية جيدة لابتكار نقد سيكولوجي للاستلاب. والابتكار في الكتاب برأيي لم يأت من وجهة النظر الأيديولوجية التي تغيرت عندنا جذرياً منذ ذلك الحين بل من فكرتين:"النظرية العامة للعاطفة" التي ذكرتها هنا، ومن دعوة الدكتور حسين الطليعية التي لم أرها في مرجع آخر لمعالجة سلوكية للاستلاب.
(2)ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939، دار النهار للنشر، ترجمة كريم عزقول، بيروت، ط3، 1977، ص106.

 
 روابط ذات صلة
· زيادة حول الفلسفة والاجتماع
· الأخبار بواسطة editor


أكثر مقال قراءة عن الفلسفة والاجتماع:
مقدمات في علم نفس الأيديولوجيا


 تقييم المقال
المعدل: 3.80
تصويتات: 115


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ


 خيارات

 صفحة للطباعة صفحة للطباعة