بوابة الخيمة

editor

قضايا وآراء الوضع العربي الراهن:
انكشاف الأبعاد المتعددة للاستلاب
بقلم:محمد شاويش

مقدمة في المفهوم:

حاز مفهوم "الاستلاب" على استعمال واسع في الفكر الغربي (وكلمة "الاستلاب" هي إحدى ترجمتين عربيتين لكلمة Alienation الإنجليزية و معادلها الألماني Entfremdung والترجمة الثانية هي "الاغتراب" وأنا أفضل الترجمة الأولى لأن من الأفضل عند تحويل كلمة إلى مصطلح اختيار كلمة نادرة الاستعمال ليست متداولة بمعان أعم. ومن هنا لم يكن "الاغتراب" هو المصطلح المناسب ).
ويبدو أن هذا المصطلح هو بالفعل جذاب لكل مفكر يريد دراسة مشكلة فقدان الإنسان للانسجام مع ذاته أو مع المجتمع. وقد استعمل المصطلح بكيفيات عديدة لا يكاد يكون بينها علاقة إلى درجة أن أي مؤلف جديد يستطيع استعمال هذا المصطلح بمفهومه الخاص دون أن يعترض عليه إلا من يجهل الاستعمالات العديدة غير المترابطة التي استعمل فيها في الفكر الغربي الحديث، والكاتب الذي درس هذه الاستعمالات دراسة دقيقة وهو ريتشارد شاخت (1) يشبه المصطلح بمصطلح "وجودي" عند سارتر الذي قال عنه: "إن هذه الكلمة أصبحت تطلق على العديد من الأشياء بتوسع بالغ إلى حد أنها لم تعد تعني شيئاً على الإطلاق" ويضيف شاخت معلقاً: "ويمكن أن يقال ذلك على مصطلح الاستلاب(المترجم استعمل كلمة "الاغتراب") وإن يكن المبرر في الحالة الأخيرة أقوى، لا يعني ذلك أن ننكر أن الظواهر التي توصف لأنها كذلك على يد من يستخدمون هذا الاصطلاح هي ظواهر هامة بل الأمر على العكس فالعديد من هذه الظواهر لها أهميتها ومغزاها وتستدعي الحد الأقصى من الاهتمام، إلا أنه بسبب استخدام هذا الاصطلاح فيما يتعلق بالعديد من الظواهر المتباينة أصبح لا يتمتع بأي ارتباط خاص بأي منها، ولا يعني استخدام اصطلاح الاستلاب اليوم دون مزيد من الإيضاح لما يقصده المرء ما يتجاوز قيام المرء بطرق كوبه الزجاجي بملعقته في إحدى المآدب، إن كلا الأمرين لا يسفر إلا عن جذب الانتباه" (2)


وهذا التشكيك بوجود معنى محدد ،ولو حتى عام للمصطلح مفيد إذا أردنا سلفاً أن نغلق الباب على من يأتي ليتهمنا بأننا "استعملنا المصطلح خطأ" ،فشاخت يرى أن هذا الاعتراض غير منطقي، ولكنني سأفيد منه استنتاجاً منطقياً في ظني وهو أن على الكاتب أن يحدد ما يعنيه بالضبط من هذا الاصطلاح.
ومن جهة أخرى فإنني أعتقد أن هناك "جواً عاماً" إن صح التعبير،تندرج فيه أغلب استعمالات هذا المفهوم،وإنني الآن وأنا بصدد التعليق علىانكشاف ظواهر نفسية-اجتماعية للجماعة المعنية،سأستعمل هذا الجو العام لأرصد أبعاد هذه الظواهر، وأحدد في كل حالة مفهومي للاستلاب الذي أصفه،وإنه لمصطلح فرض نفسه علي بشكل غريب،فكأنني لم أجد كلمة تجمع هذه الظواهر غير "الاستلاب".وإنني لآمل أن القارئ بعد أن ينتهي من المقال لن يرى أنني جانبت الصواب كل المجانبة،وأن الحدس اللغوي المفهومي قد خانني.
وكاتب هذه السطور استعمل هذا المصطلح فيما مضى في توصيف وضع نفسي خاص يعادي فيه الإنسان مكونات ذاته الحقيقية ويتبنى إزاءها موقفاً هو موقف مرجع معاد له.(3)
والكاتب العربي ينطبق عليه في أغلب الحالات ما قاله ذات مرة الألماني فيلهلم رايش: "من يستطيع كتابة أبحاث جمالية عن معنى اللون عند الصراصير في بيت يحترق؟" لا يمكنه أن يبعد التحديات المصيرية التي يواجهها شعبه من رأسه حين يكتب حتى في المواضيع الفكرية الأكثر تجريداً، بل إن هذه التحديات قد تفرض عليه موضوع الكتابة أصلاً.
و الدافع الذي دفعني لكتابة هذا المقال كان هذا الوضع المأساوي الذي يجد فيه كل عربي نفسه: إنه يشهد خطر موت هذه الثقافة العظيمة وقد ملأه الشعور بالعجز وانعدام القدرة على التأثير في مسار الأحداث.
هذا الشعور بالعجز سيخطر ببالي أولاً أن أرى فيه واحداً من تجليات ما أسميته قديماً "الاستلاب التغلبي" وهو قناعة الفرد بأنه مهزوم بصورة حتمية في أي صراع يخوضه أو بتعبير آخر قناعته بصفرية قوة المغالبة عنده.
ولكنني حين أفكر في عناصر هذا الوضع مزيداً من التفكير أجد أن الوضع استلابي حقاً غير أنه متعدد الجوانب، وهذا المقال يهدف إلى تركيز الانتباه على بعض هذه الجوانب.
أستعمل مصطلح "الاستلاب" بمعنى إنكار مكونات الذات الحقيقية،واستبدال ذات مثالية بها،والاقتناع بأن هذه الذات الزائفة هي الحقيقية.فهي إذن عملية تزييف مكتملة لنظرة المرء إلى ذاته.
و الذات الحقيقية هي مفهوم حركي (أو كما يقولون "ديناميكي") فهي واقع الشخص الموضوعي(الجسدي،النفسي،الاجتماعي) وهي أيضاً نمط السلوك الناتج عن الخبرة والتعلم وعن الموروث الثقافي.
معنى هذا أن الذات الحقيقية لا تتضمن فقط صفات موضوعية يصعب التخلص منها ولو أراد صاحبها(فتاة تتمنى لو كانت أطول-أو أقصر-لو كانت عيناها من لون أخر لو كان وزنها غير وزنها الحالي،شاب يتمنى لو كان أذكى أو أوقح ،رجل يتمنى لو كان أغنى أو كان من الفئة الحاكمة إلى آخره..) بل تتضمن أيضاً قناعات ونمطاً سلوكياً.
في هذا المقال أريد أولاً التطرق إلى مظاهر الاستلاب العربي الشامل ثم في النهاية أريد اقتراح معالجة منهجية تقدمها رؤية الإسلام للظاهرة الاستلابية.وهذا القسم الثاني هو مجرد تلخيص ورؤوس نقاط لموضوع حيوي يأتي فيما بعد إن شاء الله.

القسم الأول: في مظاهر الاستلاب العربي الشامل:

1-الاستلاب السياسي: اغتراب المؤسسة السياسية عن المواطن:

كان واحد من أكبر فلاسفة السياسة على الإطلاق وهو الفيلسوف الألماني هيغل يرى أن المؤسسة الاجتماعية وتعبيرها السياسي هي من إنتاج الإنسان،غير أنها تبدو له في حالة الاستلاب غريبة عنه بل معادية وتقف في مواجهته.
ولا أظن أن في العالم حالة من اغتراب المواطن عن المؤسسة السياسية في بلاده تزيد في الحدة عن تلك الموجودة في بلاد العرب.إذ هذه المؤسسة لم تأخذ شرعية من أي شكل كان من القاعدة الاجتماعية التي يفترض أنها تمثلها وتعبر عنها.
العربي لا يرى بأي شكل من الأشكال أن السلطة تعبر عنه ،وأن إرادتها جزء من إرادته، وإنما يرى أن إرادة السلطة هي أساساً تتوجه نحو كسر إرادته، ومنعه من التعبير عنها،بل هو يحس أحياناً أن إرادة السلطة تتعمد التناقض مع إرادته وطموحاته وأهدافه ومثله العليا الدينية ومصالحه الدنيوية!
والموقف العاجز كلياً الذي وقفته الأنظمة العربية حيال العربدة الصهيونية التي كانت دوماً موجودة،ولكنها بلغت على عهد شارون مرتبة نوعية جديدة،جعلت المواطن العربي يحس بالسخط، وساد الشعور في الشارع أن سلوك المؤسسة السياسية الرسمية العربية متخاذل، ولكن المواطن لم يجد طريقة لتغيير هذا السلوك الذي يبدو للملايين معيباً،ولم يجد المواطن إلا التعبير عن الغضب العاجز الذي لا يتحول إلى طاقة دافعة تنجز مشروعاً بديلاً.لماذا؟ لأن هذا المشروع ببساطة غير موجود،حتى لو طرحت منظمات وأحزاب عربية كثيرة من شتى التلاوين آراءها،فإن الحقيقة تبقى وهي أن كل هذا كلام في الهواء.
تبدأ الشعوب في العمل حين يظهر في الأفق برنامج عملي واقعي واضح.وهذا البرنامج في اعتقادي هو غير موجود إلى الآن.بل الارتجال موجود في قرارات المؤسسة الرسمية وفي عواطف الجماهير وتصوراتها للحل.

2-الاستلاب الأخلاقي:

وأعرفه ببساطة بأنه فقدان الشعور بالحق مع وجوده!
"الحق" هنا لا أفصله عن "الحقيقة" ،ففي هذا البعد من الاستلاب،يجبر الفرد أو تجبر الجماعة على إنكار حقائق تاريخية ثابتة،تحت ظل إكراه مرجعي دولي.ويبدأ الاستلاب منذ أن تقر الجماعة وتستبطن المفاهيم المزيفة التي يراد لها أن تحملها عن واقع كانت تعرفه في الأصل حق المعرفة.
لا يوجد مثال محزن على هذا الاستلاب أكثر من المثال العربي الذي أجبر على إخراس الصوت الداخلي الذي يقول له إن فلسطين مغتصبة،وأكره على النطق بلغة "الشرعية الدولية"، ثم أكره على تقبل التغير المضطرد في مفاهيم هذه الشرعية الدولية عن التاريخ باتجاه التنازل المستمر(وأرجو من القارئ أن ينتبه إلى هذه النقطة الدقيقة) ليس عن "الحق" بل عن "الحقيقة" :كما نرى الآن استعمالنا الطبيعي لمفهوم "الأراضي المحتلة" لوصف الجزء المحتل في عام67 ،واستعمال مفهوم "السلام العادل" لتسوية تتضمن التنازل لا عن "حق" في المغتصب بل عن "حقيقة" تقول إنه اغتصب وهنا تكمن الواقعة الاستلابية وأتمنى أن ينتبه القارئ إلى هذه النقطة مرة أخرى.والمستوطنات لا تخص "نهاريا" مثلاً بل تخص "غوش قطيف" و"نتساريم"!
وفي النقاش الدائر في وقت كتابة هذه السطور حول مياه نهر الحاصباني، يعتبر من البديهي أن ثمة جزءاً من المياه هو من حق "إسرائيل" ولا يتذكر العرب أن هذه المياه هي من حق أربعة ملايين لاجئ موجودون وممنوعون من العودة إلى ديارهم!

3-فقدان السيطرة على الذات،على الغرائز، تناقض المثل الأعلى مع السلوك،تناقض الهدف مع الوسيلة:

يمكن القول إن الشخص "مستلب" أي هو مغترب عن ذاته، حين تتناقض أهدافه العملية والأخلاقية مع سلوكه شرط أن يكون مؤمناً حقاً بهذه الأهداف ولا يكون التناقض تعبيراً عن نفاق نألفه في بعض حالات السياسة العربية وغير العربية.
والعربي في وقتنا هذا مثال على هذه الحالة.
فهو يريد شيئاً ولكنه يسلك سلوكاً يتناقض مع ما يريده ويهدف إليه.وهو يحس بهذا التناقض ولكنه يجد نفسه عاجزاً،أو هو مقتنع بأنه عاجز عن تبديل سلوكه وإزالة هذا التناقض.
ولو بحثنا في التعبير التحليلي عن هذا الموقف النفسي فسنجد أن الفرد في هذا الوضع قد فقد السيطرة على غرائزه،إذ هي التي تحرك سلوكه المتناقض مع أهدافه التي تبناها "الأنا الأعلى" عنده،إن شئنا أن نطلق على المراقب الأخلاقي المعياري للذات هذا الاسم الذي تبنته مدرسة التحليل النفسي.
وأعني بمصطلح "الغرائز" هنا ما هو أوسع بكثير من معناها الموجود في المدرسة المذكورة، فأنا في هذا المقال سأطابقها مع ما دعوته سابقاً في نظرية الاستلاب "بالدوافع الاستلابية".
ما هي الدوافع التي تدفع العربي في اتجاه يتناقض مع الأهداف الكبرى التي تطرحها المرحلة الراهنة وهي النهضة الشاملة التي تكفل الحياة الكريمة ورد كيد الأعداء والقدرة على مقاومة التحدي المصيري الذي يفرضونه بالجزمة على أنف كل عربي؟
إنها دوافع من نوع:الأنانية ،الميل العربي الذي لا يقاوم إلى تغليب التناقض الثانوي مع الأخ على التناقض الرئيس مع العدو الغريب،الميل الفردي الذي يجعل العربي غير قادر على العمل الجماعي ولا يستطيع القبول بمبدأ تقسيم العمل،ولا يستطيع التنازل ولو قليلاً عن كرامته الزائفة حيال أقل خدش لها جاء من أخيه فيشعلها حرباً طاحنة ( في مقابل استعداد للمساومة المذلة مع العدو الخارجي،وهذا غالباً ،وفي حالات قليلة حين لا تكون هذه المساومة مقبولة نجد العربي لا يقبل توحيد الجهد مع رفقاء الخندق الواحد ويستمر في خوض الحرب معهم في آن واحد مع حربه مع العدو الغريب فتكون النتيجة هزيمة نكراء)

القسم الثاني: في الإسلام كنقيض للاستلاب:

ما ذكرنا من تجليات استلابية تقودنا أخيراً إلى السؤال عن موقف الإسلام من الظاهرة الاستلابية، وهو بحث جدير بدراسة طويلة ولكنني في هذا المقال القصير أكتفي برؤوس أقلام:

أولاً: توكيد الذات الأصيلة المستقلة ومحاربة التقليد:

صادرت الفلسفة الغربية الحديثة في اتجاهها الأكثر تأثيراً والأقرب إلى روح الحضارة المعاصرة على أن ماهية الإنسان الحقيقية هي ماهية مادية،الفرويدية ترى أنها ماهية غريزية حسية أساساً، والماركسية ترى أنها ماهية اقتصادية، والفلسفة الوضعية المنطقية لا تكاد تخرج عن السرب إذ هي تنكر كل ميتافيزيقا ولا تقر بما لا يمكن التحقق من صحته بالمعنى المباشر لكلمة "تحقق".
وقد أنكر سارتر أن يكون للإنسان ماهية ما ورأى أن الوجود يسبق الماهية وأن الإنسان حر ولكنه قد يخفي عن نفسه حريته وينسب إليها أنها مجبرة خاضعة للحتمية،وهو في هذا يذهب إلى الجانب الأقصى الآخر فلا يجد داخل الإنسان من شيء مستقر ثابت في أعماقه سابق على وجوده.
أما النظرة الإسلامية فترى أن ثمة ماهية مختبئة في أعماق الإنسان وهي قوة قادرة على توجيهه وتعريفه بالصواب والخطأ هي "الفطرة"،ولكنه مع وجود الفطرة حر في سلوك طريق الضلال والابتعاد عنها!
و الإسلام ليس ديناً طارئاًً على البشرية بل هو الدين الذي احتوى الحقائق الثابتة للإنسان في علاقته مع خالقه ومع الكون. إذ الإسلام هو دين الفطرة الذي لم يزل يدعو إليه الأنبياء من عهد آدم إلى آخر الأنبياء عليه وعليهم السلام. هو الدين القيم الذي أخذ الله العهد من البشر وهم في ظهر أبيهم آدم على اتباعه.
وبهذا المعنى فإن الإسلام يعبر عن الذات الحقيقية للبشر التي يمكن أن يغتربوا عنها بتأثير التربية والنظام الاجتماعي الفاسد والدعوة للإسلام بهذا المعنى هي دعوة للخلاص الشامل من الاستلاب الذي عرفناه تعريفاً عاماً بأنه وضع ذات زائفة في مكان الذات الحقيقية وأضيف الآن أن المستلب ينطق بلسان هذه الذات الزائفة على حين تكمن ذاته الحقيقية مكبوتة لا تكاد تنطق إلا بأشكال غير مباشرة وغير واعية.
يقول عز وجل: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" سورة البقرة-الآية 143.
إذاً فالمسلم الحقيقي هو الإنسان المتبع لدين الفطرة التي هي الذات الحقيقية للبشر ومثلها الأعلى هو النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه الأمة هي المقياس لوجود استلاب في عالم البشر والنبي صلى الله عليه وسلم هو المعيار لكل فرد من هذه الأمة.
ومن هنا كان على المسلم أن يبتعد عن التقليد في كل النواحي التي لا تنسجم مع الفطرة البشرية،لأنه يجد مثله الأعلى الذي يجب عليه إن أراد الكمال الحقيقي أن يحذو حذوه في دينه الفطري وفي نبيه وليس في أوضاع اجتماعية دنيوية انحرفت عن الفطرة،كما في حالة المسلم المعاصر الذي اتخذ من مظاهر الحضارة المادية المعاصرة مثلاً أعلى يقلده، وفي المقابل أبيح له بل ندب له وفرض عليه فرض كفاية أن يبحث عن الحكمة عند غير المسلمين ويعتبرها ضالته، إذ أن من تجرد من الإسلام ديناً فهو ليس بالضرورة متجرداً من الفطرة وتجلياتها! وهذا ما يمكن أن نضرب عليه مثالاً في وجود بعض الأنظمة السياسية والاجتماعية العادلة عند بعض الشعوب غير المسلمة على حين وجد الظلم عند المسلمين حين ابتعدوا عن جوهر الإسلام، وبالمثل توجد قيم فطرية عند غير المسلمين كالنظافة والنظام، قيم دعا إليها الإسلام وتخلى عنها أتباعه المفترضون، وكل هذا عبر عنه محمد عبده رحمه الله حين لخص الفرق بين ما رآه في أوروبا ورآه في بلاده قائلاً إنه رأى في أوروبا إسلاماً ولم ير مسلمين ورأى في العالم الإسلامي مسلمين ولم ير إسلاماً. ورغم بعض المبالغة في هذا القول وما يمكن أن يساق من نقد على كلتا الجملتين إلا أن ثمة جزءاً من المعنى صحيحاً هو الذي أشرنا إليه قبل قليل.
وقد حرص الإسلام على تأكيد التميز في المضمون وفي الشكل، في المعنى القلبي وفي الشعائر الظاهرة المعبرة عنه، ومن هنا وجدنا الأذان يشرع منبهاً للصلاة ولا يؤخذ بالناقوس.
وقد تنبأ النبي عليه الصلاة والسلام للمسلمين أنهم سيقعون في حبائل نزعة التقليد ،حتى لو دخل الآخرون جحر ضب لدخله المسلمون ،وهذا ما يراه حتى الأعمى عندنا في هذا الزمان،وهذا واحد من آثار كثيرة تنبأت بحالة الانحطاط الحضاري التي حدثت ومازالت مستمرة.

ثانياً: الثقة بالنفس والوقوف ضد اختلالها:

1-أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه أنه النبي الذي أنزلت عليه شريعة صدقت ما قبلها من شرائع ونسختها ،ومن هنا انعدمت ضرورة أن يقلد المسلم تلك الشرائع السابقة ولا سيما أنها قد حرفت وبدلت وقد قال عليه السلام: إن موسى لو كان حياً ما وسعه إلا اتباعه.
2-وقد ظهرت هذه الثقة بالنفس واضحة في عهد الخلفاء الراشدين ،والقارئ يعرف قصة ربعي بن عامر الذي لم يبال بكل زخرف الفرس ومظاهر حضارتهم المترفة الفاسدة معلناً قوة العقيدة الجديدة على الفرس القائلة بالانتقال من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
ومن ذلك أيضاً إصرار الخليفة العظيم عمر رضي الله عنه على التمسك بمظهره المتواضع ونزعته إلى المساواة بين المسلمين كرعية وبينه كأمير، وعدم قبوله بنصح من نصحه بتغيير هذا المظهر الإسلامي الأصيل بمظهر استعبادي يناسب الأقوام الذين وفد عليهم لعقد العهدة العمرية قائلاً : نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نعتز بغيره!
3-وثمة ثقة هي في غاية الأهمية تخص ما أسميته في مكان آخر "الاستلاب التغلبي"، وهي الثقة بالقدرة على التغلب على الخصوم وعدم الخوف منهم،ويظهر هذا في قوله تعالى مادحاً المؤمنين "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً" –آل عمران- 173.
وقال "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"-آل عمران-139.
وبالتأكيد كانت هذه الثقة المعنوية الهائلة مطلوباً دعمها بإعداد القوة المادية المستطاعة "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل" الأنفال-60.

ثالثاً: السيطرة على الغرائز والشهوات:

هذه إحدى النقاط الحاسمة التي تجعل الإنسان يسيطر على ذاته ويفعل ما تمليه مبادئه، ولا ينغمس في الدنيا تسيره في نهرها الجارف كالغثاء.
هذه الحالة الغثائية نتجت كما يحللها الحديث المشهور عن حب الدنيا وكراهية الموت. والحال أن الرؤية الإسلامية تقول إن الدنيا سلم للآخرة تجب عمارتها بحكمة وفقاً لما يرضي الله،وبالتحكم الكامل بالهوى، وعدم إرخاء الزمام للشهوات ،قال تعالى: "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها احب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين" التوبة- 24.
ولذلك كان الترف الزائد والانسياق وراء الشهوات علامة انهيار الحضارة كما أخبرنا عز وجل: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا"الإسراء-16.
ومن هنا كانت الخشونة مطلوبة كما في قول التلميذ العظيم للمدرسة النبوية الفاروق: "اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم". وفي سبيل السيطرة على الشهوات فرضت عبادات كالصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر والصيام والزكاة والحج الذي لا يخلو من مشقة. ومن الأحاديث العظيمة التي لم تدرس معانيها دراسة كافية إلى الآن في اعتقادي تمييزه عليه الصلاة والسلام بين نوعين من الجهاد: الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر.
في الحقيقة نرى الآن في أوضاعنا الراهنة أن المسلمين والعرب منهم خصوصاً هم أقدر على الجهاد الأصغر منهم على الجهاد الأكبر! ومن يرى الأمور رؤية سطحية سيستنكر هذا الكلام، ولكنني أعتقد أنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد فقط بجهاد النفس الذي هو الجهاد الأكبر الجهاد ضد الشهوات الفردية الحسية الصغيرة، بل قصد مكافحة تلك العيوب النفسية الخطيرة التي تحول دون تماسك المجتمع وتعاضده وتقود إلى تفكيكه، وهذه العيوب هي التي نراها في مجتمعنا والتي أشرت إليها في فقرة سابقة. فإن العربي كما يخيل إلي يستطيع أن يضحي بنفسه ولا يستطيع أن يضحي بأنانيته التي تمنعه مثلاً من القبول برئاسة غيره له، أو يضحي بقليل من كرامته الزائفة التي تجعله لا يغفر لأخيه زلة ويقدم تناقضه الثانوي مع أخيه على تناقضه الرئيسي مع أعدائه وأعداء أخيه!
جهاد النفس هذا يتضمن إذاً في اعتقادي إعادة بناء الذات الجماعية السياسية القادرة على الفعل، إذ أن ذاتنا الحالية كما أشرت سابقاً تمتاز بفقدان القدرة على العمل الجماعي ولنا في الحالة المزرية للجامعة العربية أوضح مثال وأبعثه على الأسى!.
جهاد النفس هذا في اعتقادي أخيراً وبهذا المعنى الذي ذكرته هو الطريق للخلاص من هذا الاستلاب المرير الذي يتبدى في فقدان السيطرة على المصير ،عبر فقدان القدرة على الوحدة مع الآخرين لبناء كتلة قوية ذات إرادة موحدة تستطيع الوقوف بصلابة أمام تحديات العالم وأمام الأخطار المحدقة!. وفي اعتقادي أن إنهاء هذا النوع من الاستلاب هو الطريق المنطقي الموضوعي لإنهاء ظاهرة الفصام بين المجتمع والسلطة ،لأن المجتمع الموحد المتماسك سيفرض سلطة تعبر عنه. وإنما تغترب السلطة عن المجتمع حين يكون المجتمع نفسه مفككاً منقسما.ولا أدل على ذلك من المثال الواضح الذي تقدمه المجتمعات الغربية التي لا يوجد فيها فصام بين الحاكم والمحكوم، وبين إرادة الحكومة وإرادة الشعب ،مثل ذلك الفصام الذي يميز مجتمعنا!.

هوامش:

(1)انظر "الاغتراب" – ريتشارد شاخت- ترجمة كامل يوسف حسين- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 1980. انظر مناقشته الختامية في الفصل السابع- ص 299-331.
(2)م.ن- ص 299.
(3)نشرت هذه النظرية بعنوان "النظرية العامة للاستلاب" في كتاب هو "حول الحب والاستلاب- دراسات في التحليل النفسي للشخصية المستلبة"- دار الكنوز الأدبية- بيروت- 1995- ص 25- 69.



 
 روابط ذات صلة
· زيادة حول قضايا وآراء
· الأخبار بواسطة editor


أكثر مقال قراءة عن قضايا وآراء:
العراق مركز انطلاق البركان


 تقييم المقال
المعدل: 3.47
تصويتات: 17


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ


 خيارات

 صفحة للطباعة صفحة للطباعة