حسن فتحي شاعر العمارة فشلت مشاريعه وبقي حلمه
التاريخ: السبت 17 مايو 2003
الموضوع: العلوم والتقنية


البساطة المغدورة والمستحيلة

بقلم: محمد شرف

جريدة السفير -16/5/2003

أقام معهد العالم العربي في باريس، منذ فترة، معرضا استعاديا للمهندس المعماري المصري حسن فتحي (1989-1900). تضمن المعرض رسوماً ومخططات وصوراً فوتوغرافية تغطي مفاصل رئيسية في مسيرته الابداعية الغنية والفريدة من نوعها.
عرف فلاحو الصعيد حسن فتحي قبل سواهم من ابناء الشعب المصري، وعرفه اساتذة المعمار الاوروبيون قبل الكثيرين ممن كان عليهم ان يعرفوه في الوطن العربي.


بيت من تصميم حسن فتحي

وُلد في بداية القرن المنصرم، وكانت له معاناته الكبيرة من جراء سيطرة الثقافة التقليدية على افكار مهندسي تلك الفترة، والتي لم يسلم منها حتى زملاؤه الذين سايروا، وجاملوا، وقلدوا شتى النزعات القريبة الحديثة. وتنبثق أهمية حسن فتحي من تلك المعاناة، وتكمن تلك الاهمية في أمر بسيط، والأمر البسيط يعكس، دائماً، جوهر الحقيقة: لقد كان فتحي اول من شخّص مركب النقص عند معماريينا إزاء منجزات العمارة الغربية. وقد يبدو هذا الامر، في يومنا هذا، مسألة اعتيادية، فنحن محاطون بجملة من هذه الآراء التي نلحظ حضورها كلما جرى الحديث على واقع العمارة العربية. لكن ما نسمعه اليوم كان قد أشار إليه فتحي، منذ وقت طويل، حين قال: >، وما كتابه > سوى قصيدة فريدة لمهندس من نوع خاص.

عمارة الفقراء

نشر الكتاب، في الاصل، عام 1969 تحت عنوان: >، في طبعة محدودة باشراف وزارة الثقافة المصرية وصدرت ترجمته الفرنسية عام 1970 بعنوان: >. كما نشر عام 1973 بواسطة جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة الاميركية. وصدرت الطبعة المصرية سنة 1989، بواسطة الجامعة الاميركية في القاهرة. اما الترجمة العربية، شبه الكاملة، فقد ظهرت عام 1991 تحت عنوان: >.

يقول فتحي في مقدمة كتابه: >. وسياسة تنمية الارياف تعني، في ما تعنيه، معالجة مشكلة رئيسية يتعرض لها الريفيون وتنعكس، بشكل او بآخر، على انماط سكنهم وعمارتهم، وهي مشكلة الفقر. يقول وليام ر. بولك، رئيس معهد ادلاي ستيفنسون للشؤون الدولية، في مقدمة كتبها لاحدى طبعات كتاب حسن فتحي: >. إن ما يقترحه حسن فتحي، من خلال ابحاثه وكتاباته ونشاطه العملي، هو شكل جديد من المشاركة. وما ينبغي ان يساهم به الفقراء، في هذه المشاركة، هو بالضرورة عملهم. كما انهم، في انحاء كثيرة من العالم، لديهم امكانية العثور، بلا تكلفة كبيرة، على مادة بناء واحدة ممكنة وهي التربة التي تجثو تحت اقدامهم. واستناداً الى هذين الشيئين: العمل والتربة، سيكون بإمكانهم انجاز الكثير. على ان هناك مشاكل اخرى، تقنية في معظمها، لا يستطيعون حلها بأنفسهم، او قد يتم حلها، في حال انعدام التوجيه، بطرق مكلفة او قبيحة وغير سليمة. وهنا يبرز دور المهندس المعماري الذي سيكون المرشد، في مشروع يعتمد أساساً على الجهد الذاتي. وتتجلى مهارة المهندس عندها في مساعدة الناس على الوصول الى حل رخيص للمشاكل التي قد تعترضهم. ونذكر هنا، على سبيل المثال، ان مسألة التسقيف هي من اصعب المشاكل التي تبرز في مجال البناء. وقد ادت محاولات حل هذه المشكلة، في مناطق كثيرة، الى خلق سقوف ثقيلة ومرهقة الى حد هائل، وهي كثيرا ما كانت تنهار بفعل الزلازل او الامطار الغزيرة. وكانت هذه السقوف مسؤولة عن عدد كبير من الوفيات المرعبة التي حدثت في تركيا وايران ومناطق اخرى نتيجة للزلازل العنيفة. وقد وضع فتحي هذه المشكلة في سلم أولياته خلال عمله على تقنيات بناء مساكن الفلاحين او الناس الآخرين.

بين الحلم والواقع

كان فتحي، الذي ولد في القاهرة، من محبي الريف المصري منذ صغره. لكنه كان كمن يحب شيئاً لا يعرفه حقاً، ولم يكن يراه إلا من نافذة القطار خلال رحلاته، مع أهله، من القاهرة الى الاسكندرية لقضاء اجازة الصيف. اما والده الذي كان يمتلك العديد من الضياع في الريف، فقد كان يتجنب هذا الريف لاعتباره مكانا مليئا بالذباب والبعوض والماء الملوث، وكان يكتفي بالذهاب إليه، مرة كل سنة، ليلتقي بوكلائه في الارض ويقبض الايجار.

بسبب تلك العلاقة الدفينة مع الريف، حاول حسن فتحي الانتساب الى كلية الزراعة، لكنه فشل في امتحان الدخول وتوجه الى كلية الفنون التطبيقية ليدرس العمارة ولتبدأ، بعد تخرجه، علاقة اخرى بالريف. كانت اولى زياراته لبيوت الفلاحين محبطة، اذ فوجئ بالظروف المعيشية السيئة لهؤلاء الناس، >. وقد حلت هذه الصورة لديه مكان الصورة الاولى للجنة الريفية، التي كان يرسم صورها في ذهنه، وهو خلف نافذة القطار.

بعد هذه الانطباعات المتناقضة، طرح فتحي تساؤلاً منطقياً: كيف يمكن لاي فلاح مصري يملك فداناً واحداً من الارض ان يبني منزلا خاصاً به، في حين يعجز صاحب الارض الميسور، الذي يملك اكثر من مئة فدان، عن تحمل كلفة بناء منزل؟ ورأى ان الاجابة البسيطة عن هذا التساؤل تكمن في قدرة الفلاح على بناء بيته بنفسه من الطين، او من الطوب الذي يستخرجه من الارض ويجففه في الشمس. وقد شكلت هذه الاجابة حلا للمشكلة المطروحة، اذ خلال سنين وقرون كان الفلاح يستثمر، بحكمة وروية، مادة البناء الظاهرة، وهذه الحكمة لم ترد في برامج التعليم الحديثة التي تدفع الطلاب الى استعمال المواد المصنعة العالية الكلفة، والتي قد تعتبر فكرة اللجوء الى الطين ضرباً من الهزل. ولا شك في ان بيوت الفلاحين قد تكون ضيقة ومظلمة ولا تلبي حاجات الراحة العصرية، لكن ذلك ليس نتيجة لخطأ في مادة البناء بحد ذاتها، بل لصنف في التصميم وحسن الاختيار، وفي حال توفرت امكانيات التخطيط، التي يفتقدها منزل الفلاح، يمكن ساعتها تعميم المسألة، بحيث تبنى منازل الفلاحين والملاك من المواد ذاتها وتتوفر، في الحالتين، شروط الراحة والذوق الجمالي.

وصنع فتحي عدة تصاميم لبيوت ريفية من طوب اللبن، واقام عام 1937 معرضاً في المنطورة ثم في القاهرة، حيث ألقى محاضرة عن تصوره للبيت الريفي. وقد اتت هذه المحاضرة بالثمار المطلوبة، اذ اتيحت له عدة فرص للبناء حسب نظريته الخاصة. كان اصحاب الطلبيات من الميسورين الذين وعدوا انفسهم ببيوت جميلة وغير مكلفة، وقد سار تنفيذ المخططات على ما يرام الى ان بلغت مرحلة بناء السقف، حيث تبين ان اللجوء الى الخشب كعنصر دعم سيزيد من التكلفة وسيعيد الامور الى نقطة الصفر. وباءت محاولات الاستغناء عن الدعامات الخشبية بالفشل، الى ان استعان فتحي ببنّائين من منطقة اسران، بعدما كان قد رأى بيوتاً هناك، خلال رحلة قام بها عام 1941، وقد بنيت اقبيتها من طوب اللبن من دون استعمال اية دعامة خشبية. وقد قام البناؤون، الذي ورثوا هذه التقنية عن اجدادهم، بهذا العمل بسرعة مدهشة وبدون اية ادوات هندسية، وجاءت النتيجة على درجة عالية من الدقة ادهشت فتحي الذي وجد فيها حلا لمعضلة شائكة.

سرقة مقابر تتسبب في مشروع سكني

تقع القرنة على الضفة الغربية للاقصر فوق انقاض مدينة طيبة القديمة، في مكان يحده وادي الملوك من الشمال ووادي الملكات من الجنوب ومقابر النبلاء في الوسط، على سفح التل المواجه للاراضي الزراعية. وقد بنيت القرية على موقع مقابر النبلاء، ويسكنها 7000 فلاح في بيوت تتوزع على مجموعات تحيط بالقبور القديمة. وكان هؤلاء يعتاشون من ارث الماضي بكل ما في الكلمة من معنى، فقد اجتذبتهم الى هذه المنطقة قبور اجدادهم الاغنياء، وهي التي مثلت القاعدة الصلبة لاقتصادهم الذي اعتمد اساساً على نهب تلك القبور الحافلة باشياء ذات قيمة أثرية كبيرة. اما الاراضي الزراعية، التي تحيط بهم، فلم تكن لتكفي حاجاتهم المعيشية، اضافة الى كونها ملكاً لعدد قليل من اثرياء الملاّك الزراعيين. لكن سكان القرنة، الذين تحولوا مع الوقت الى لصوص مقابر محترفين، الحقوا الكثير من الضرر بتلك المقابر بعد نبشها بطريقة عشوائية، بحيث صار لزاماً على مصلحة الآثار ان تجد حلا لتلك المشكلة. وقد اصدرت مراسيم تقضي بنزع ملكية الارض من الفلاحين، لكنها بقيت حبراً على ورق، فتنفيذ تلك المراسيم كان من شأنه ان يخلق مشكلة اخرى: نقل سبعة آلاف فرد من هناك والتعويض عليهم بعد ايجاد مكان آخر لهم. لكن هؤلاء، حسب كلام حسن فتحي، >. وكان الحل الوحيد هو اعادة تسكينهم، لكن الاقتراح كان مكلفاً للغاية. في ذلك الوقت، خطرت فكرة الاستعانة بحسن فتحي، على نحو مستقل، لكل من عثمان رستم، مدير قسم الهندسة والحفريات، وم. ستوبلير مدير قسم الترميم في مصلحة الآثار. وكان الاثنان على علم بنماذج فتحي وتصاميمه التي طبقت في بناء بيوت الجمعية الملكية الزراعية في القاهرة عام 1937، وبيت الهلال الاحمر، وقد تركت طريقة استعمال مادة البناء، ورخص كلفة استخدامها، لديهما انطباعاً جيداً. وبالتالي فقد اقترح كل منهما على الأب درايتون، المدير العالم لمصلحة الآثار، الاتصال بفتحي بشأن قرية القرنة الجديدة، فوافق درايتون على الاقتراح بعد معاينته المباني التي نفذها المهندس. ونتيجة لذلك اتيحت الفرصة لفتحي كي يحقق حلماً كان يراوده منذ وقت طويل.

كان مشروع القرنة بالنسبة لفتحي عبارة عن تجربة ومثال في آن واحد، وكان يأمل ان تتحول تلك القرية الى نموذج يحتذى في عملية بناء الريف المصري بكامله، كما كان يأمل ايضاً ان يتلمس عامة الناس امكانية ان يكون المسكن جيداً ورخيصاً، اعتماداً على قاعدة >. وفي سعيه لنقل المعلومات والخبرة الى بنّائي المستقبل، الذين سيؤدون العمل بانفسهم، كان عليه ان يشرع في بناء القرية بدءاً من العنصر الاساسي: تراب الارض، وان يهتم بأصغر التفاصيل العملية ويوضح كيفية القيام بها، اضافة الى تقدير كلفتها. وكان على الفلاحين العمال ان يصنعوا الطوب بأنفسهم، وان يحفروا الطين ويستخرجوا الجير ويقطعوا الحجارة. وهم يقومون هنا بكل المهام التي يعهد بها عادة، في معظم المشاريع المماثلة، الى مقاولين محترفين.

المشروع المتعثر

لكن الامور لم تجر تماماً حسب ما اراده فتحي لاسباب عديدة ابرزها هو الطابع البيروقراطي للسلطات المصرية المسؤولة التي لم تف بتعهداتها المالية من اجل تمويل بناء القرية الجديدة حسب الجدول الزمني الموضوع اساساً، وكان التأخير في صرف الاموال اللازمة من اجل شراء بعض المواد، التي لا يمكن استخراجها من الارض، او لدفع اجور العمال، سبباً في اعاقة تقدم المشروع. اما الاسباب الباقية فيتعلق معظمها بطبيعة الفلاحين انفسهم، إذ رفض بعضهم ترك القرنة القديمة التي تمثل بنيتها التحتية >، اي بالتالي مصدراً اقتصادياً، ولم يتفهم بعضهم الآخر طبيعة المشروع ومعناه المعماري والثقافي كل هذه الاسباب ادت، مجتمعة، الى تأخير كبير في تنفيذ المخطط الاساسي الذي وضعه فتحي، بحيث سار التنفيذ على مراحل ثلاث امتدت ما بين اعوام 1945 و1948، ثم توقف العمل ولم يكتمل بناء القرية ابداً، مما دفع بفتحي الى نوع من الاحباط جعله يقول: >... >. ويمكن طبعاً ان نتفهم خيبة امل حسن فتحي، فقد وضع لنفسه اهدافاً كبيرة، وكان اي اخلال بجزء من ذلك > يعني، بالنسبة اليه، فشلا عظيماً. ولكن، من ناحية اخرى، يجب اعتبار ما تم تنفيذه من قرية القرنة الجديدة انجازاً على جانب كبير من الاهمية. اما ما اعتبره فتحي فشلا، فهو، بالنسبة لنا، اشبه بالنجاح النسبي، غير المكتمل، في مهمة صعبة ومعقدة.

الأسلوب اللغز

بعد مشروع القرنة، اي في الخمسينيات، غادر حسن فتحي مصر لفترة من الزمن نحو مدينة اثينا. وهي فترة محاطة بالالغاز غاص المهندس خلالها في بحر النظريات الانسانية الشمولية الملتصقة، بشكل او بآخر، بموضوع المسكن، وسينتج، في تلك المرحلة، هندسة ذات وجه عالمي لا تشبهه تماماً، ثم سيعود الى مصر والى خطه الاساسي كي يباشر، عام 1967، ببناء قرية جديدة في بارس، في واحة خرجا، حيث سيعمد الى استعمال طرق طبيعية للتهوية (الملقف)، من اجل حماية المباني من درجات الحرارة المرتفعة. لكن، وفي هذه المرة ايضاً، يتوقف العمل في المشروع في منتصف الطريق، ويعود فتحي بعدها الى تصميم الفيلات كقصر موناسترلي في القاهرة، الذي استلهم في تصميمه قصور البوسفور، وبيت فؤاد رياض في الجيزة.

في عام 1980 يتلقى فتحي دعوة من التجمع الاسلامي في ابيكيو، في نيو مكسيكو (الولايات المتحدة الاميركية)، لبناء دار السلام. وسيعود هناك الى تقنياته المعهودة، لكن المشروع لم يكتمل، اذ لم ينفذ منه سوى المسجد. وقد اجبرت الظروف المناخية القاسية، والامطار الموسمية، اضافة الى الشروط القاسية للبناء في اميركا، حسن فتحي على تغطية القبب بطيقة > خاصة لحمايتها من الانجراف او التفتت. كما ان تقوية الاساسات زاد من حجم الكلفة المخصصة سلفا للمشروع، مما ساهم في > المقاولين السعوديين، اصحاب المشروع.

وبرغم ذلك، فقد وقفت المجموعة المعمارية العالمية الى جانب حسن فتحي، فنال الجائزة الخاصة لمؤسسة آغا خان نظراً لاسهاماته في عمارة العالم الاسلامي، وهي واحدة من علامات التقدير الكثيرة التي حصل عليها خلال مسيرته، اذ كان قد نال ايضاً الجائزة الوطنية للفنون والآداب في القاهرة عام 1969، اضافة الى جوائز اخرى. ونتذكر حسن فتحي اليوم كذاك المهندس الفريد، صاحب الرؤية الجديدة، الذي ترك تأثيراً واضحاً على اجيال كاملة من المعماريين، وكذاك الانسان الشاعر والمفكر الانساني، صاحب الاسلوب الذي سيبقى لغزاً، او اسطورة ربما، تدور احداثها في >.


قرية القرنة التي صممها حسن فتحي





أتى هذا المقال من الخيمة العربية
http://akhbar.khayma.com

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://akhbar.khayma.com/modules.php?name=News&file=article&sid=173