بوابة الخيمة

editor

أقوال الصحف "النهار"

الاثنين 20 كانون الثاني 2003

مساهمة في الجدال حول وثيقة المثقفين الاميركيين:
الحـاجة الى تحـوّل جـذري في طـريقـة التفكيـر
شبلي الملاط

تعريفات ومنهجية

يمكن المرء أن يجد عدداً كبيراً من نقاط التوافق او الخلاف في المنطق والصيغ التي اختارها صانعو السياسة او الاكاديميون في وثيقة "ما نكافح من أجله". ويقدّم هذا الرد وجهة نظر من داخل الشرق الاوسط، ويهدف الى اداء دور القصة المضادة، لا الى أن يمثّل محض بيّنة (1). وهو يدعو الى تحوّل جذري على صعيد طريقة التفكير الاميركية في سياسة الحكومة الاميركية في الشرق الاوسط: وذلك على المستوى القانوني، بعيداً عن الحرب على الارهاب، وعلى المستوى الجوهري، بعيداً عن دعم القادة الذين يعتمدون على الولايات المتحدة للاستمرار في سياسات تتناقض مع القيم الانسانية الكونية (والاميركية).

إن وجهة النظر التي يصدر عنها هذا الرد شرق اوسطية. وعلى نحو متناقض، تختلف طبيعة الردود الصادرة عن أندونيسيا او نيجيريا بصفتهما دولتين اسلاميتين في شكل رئيسي، وتقع تلك الردود خارج نطاق تفكيرنا الأضيق جغرافياً. فمأساة 11 ايلول وآلاف الابرياء الذين قُتلوا في نيويورك والعنف الذي عمّ إثر ذلك وتسبب بدوره بقتل عدد كبير من الابرياء، جميعها أمور يجب أن تُحلّل بدقة من منظار "الطابع الشرق الاوسطي" لنزاع طغت عليه منذ ذلك الحين صفة استخدام القوة (2).

وواقع أن الرسالة تشكّل في الدرجة الاولى مبادرة من جانب شرق اوسطيين عرب لا يستثني احتمال رغبة "مواطنين" آخرين من المنطقة في تأييدها كلياً او جزئياً. ونأمل في نيل هذا التأييد من جانب اشخاص من كل حدب وصوب، من داخل اميركا والشرق الاوسط او اي مكان آخر. اذ يمكن هذا الرد أن يكون حاملاً رأي الايرانيين والاتراك والاكراد ايضاً او حتى الاسرائيليين، الخ... وذلك بسبب انتمائنا الجيوسياسي المشترك، لكن من الطبيعي أن تقسم وجهة نظرهم بفوارق ومشاغل مختلفة، رغم اننا نأمل في أن تحمل هذه المساهمة اصوات عدد كبير منهم.

ويبغي هذا التأمل أن يكون طموحاً، والسؤال الذي يجدر بزملائنا ما وراء الاطلسي السعي الى الاجابة عنه بعد النظر في ردنا هو ما اذا كانوا قادرين على تأييد منطقه واستنتاجاته، وفي حال النفي، لمَ لا؟ فمعظم ما يقولونه مقبول بكل رحابة صدر، رغم أن بعض العناصر المهمة ليست كذلك. ونظراً الى مدى خطورة الوضع الحالي، تختار هذه المساهمة التركيز على نقاط الخلاف بدلاً من نقاط التقارب (3).

شملت الرسالة المذكورة، بالاضافة الى قسم متمحور حول القيم "الاميركية"، تعليقات موسعة على موضوعي الدين والدولة، وعلى استيفاء شروط الحرب العادلة من لجوء الحكومة الاميركية المستمر الى استخدام القوة.

ولكي نبدأ من النقطة الاخيرة، من الصعب ان تكون اي استنتاجات حول الحرب العادلة حاسمة، وذلك لسببين: حين يوصف العدوّ بـ"الارهابي"، لا يعود نمط الحروب الكلاسيكي بين دولتين قابلاً للتطبيق. من جهة اخرى، ان الحروب العادلة تناشد مشكلة الاهداف والدوافع، والاطار التاريخي والسياسي والقانوني الذي تشن داخله أي حرب من الحروب. كذلك فإن مفهوم الحروب العادلة ليس منوّراً في شكل خاص حتى يومنا هذا، كون الفتوحات والتوسعات في الاطر المقولبة دينياً في القرون الماضية لا تتيح فهماً كافياً لنواحي الحرب المختلفة نوعياً في الزمن الحاضر.

قد يكون ثمة إقرار عموماً بالتقارب حول العقائد الفلسفية الاساسية لما يشكل حرباً عادلة، لكن الرد الذي اخترناه هنا تعمّد أن يكون قانونياً - سياسياً وذا توجه سياسي. وهو يجتنب عن قصد المناقشة الوجودية والفلسفية حول الحروب العادلة، وهي المناقشة السائدة في الرسالة الاميركية. اذ ثمة درجة كبيرة من التوافق على صعيد دولي حول عقائد فلسفية واخلاقية او وجودية كهذه: فالاعتداء غير مقبول، والدفاع عن النفس والحق في المقاومة مبرّران، والعنف باسم القيم الدينية او غيرها من القيم الايديولوجية خاطئ. وفي حين يمكن عقد جدالات لامتناهية حول من يشعل الحرب، ومتى يكون اللجوء الى العنف مقبولاً ومن جانب اي طرف، تكمن المشكلة في مكان آخر، وخصوصاً في السياسة الاميركية بإزاء الشعوب والافراد المقيمين في الشرق الاوسط (4).

اما النقطة الاقل نفعاً في الرسالة الاصلية فهي الموجز حول "القيم الاميركية" التي يمكن المرء بسهولة التعاطف معها واعتمادها مهما كانت جذوره، عبر استبدال كلمة "الاميركية" بـ"الديموقراطية" او "الانسانية" او طبعاً "الدينية". ومن غير المفيد الى حدّ بعيد أن تُطلق صفات عامة على هذه "القيمة" القومية او الحضارية او الدينية، او تلك: اي يمكن المرء ان يجد في القرآن او في الانجيل، او في أي نص مقدس آخر، ما يكفي من الآيات والتعليقات التي تدافع عن وجهة نظر معينة ونقيضتها (5). فتلك هي طبيعة الكتابات المقدسة، كونها مفتوحة على أقطاب متضادة جذرياً من التفسير طوال الزمن الطويل الذي مضى منذ تقديسها (6). وفي الوقت نفسه، إن الحقيقة البديهية الاساسية التي تجعل لأي رسالة إلهية حدوداً مشتركة مع السلام والعدالة، لن تمنع اولئك الذين يلجأون الى العنف باسم معتقداتهم الخاصة من أن يكونوا منيعين من بند الايمان ذلك (7).

اما العامل الاشد إغراء فهو واقع ان رسالة "ما نكافح من أجله" (8) تفترض بأن استخدام القوة يجب ان يكون الملجأ الاخير، وبأن الحوار واللاعنف هما الوسيلتان المفضلتان لإحداث تغيير اجتماعي ولايجاد حلول للنزاعات. لا يسع المرء الا ان يؤيد هذه النيات الحسنة، لكن المشكلة تكمن في أن دعوة زملائنا الى الحوار لا تحول دون تأييدهم المطلق للعنف الذي تشنّه وتتغاضى عنه الحكومة الاميركية منذ مجازر 11 ايلول، وتلك هي نقطة الخلاف الرئيسية بيننا وبينهم.

خلافنا القانوني: حرب على الارهاب؟

بعد مرور أشهر على اندلاع الحرب في شكل مكثّف، ليس استخدام القوة الى تراجع، ويجب أن يثير ذلك سؤالاً حول التاريخ المفترض لنهاية الحرب. لكن لنتأمل بادئ ذي بدء في خطوة الموقعين الايجابية في رسالتهم المفتوحة تلك، وهي من دون شك المساهمة الاكثر إرباكاً وإثارة للحيرة، الا وهي امتناعهم عن ذكر مفهوم "الارهاب" كمبرّر لكفاحهم.

ففي حين أن الزعم السائد ينص على أن "العدو هو الارهاب"، من اللافت ألا تكون كلمتا "ارهاب" و"ارهابي" قد وردتا مرة واحدة في النص، رغم أن العمليات العسكرية للحكومة الاميركية في الخارج ترتكز على تبرير بسيط هو "حربها على الارهاب". وقد زاد في غموض المسألة العنوان الذي اعتمدته "الواشنطن بوست" في تغطيتها الاولى للرسالة، والتصنيف الذي اعتُمد في ما بعد في موقع الانترنت حيث يدور الجدال.

اذا كانت كلمة "ارهاب" غائبة نتيجة قرار واعٍ، فإن تفسير الكاتب لهذا التعارض اللافت مع الحكومة الاميركية قد يكون مفيداً. اما اذا كان غياب كلمتي "ارهاب" و"ارهابي" في تلك الرسالة الطويلة تم بغير وعي، فقد يكون مفيداً ايضاً أن نتشارك التأمل في هذا الغياب غير المتوقع، وان ننظر جدياً في احتمال الابتعاد عن الوصف التوافقي المزعوم لما حدث في 11 ايلول .2001 اذ ان تبادل الشكوك حول الاستخدام البدائي للارهاب والاعتداءات، وعواقب ذلك على السياسة والعلاقات الدولية، يؤمّن قاعدة مهمة لرد مختلف وبنّاء يمكن أن نصوغه معاً.

فاليكم موقفنا من هذه المسألة: في ما يتعلق بما حصل في 11 ايلول، لا يكفي وصف "الاعتداء الارهابي" لنقل الفظاعة الكاملة لما جرى. فكلمة "اعتداء" عامة للغاية وغير تصويرية الى حدّ انها لا تعبر عن الخسارة الهائلة في ارواح المدنيين في ذلك اليوم. بالاضافة الى ذلك، لا تملك كلمة "ارهابي" اي تحديد قانوني ذي طابع توافقي (9). ومن الخاطئ وصف الاحداث المأسوية التي جرت في 11 ايلول بغير كلمة "مجازر" في الاحاديث العادية وبغير عبارة "جريمة ضد الانسانية" في لغة القانون الدولي (10). لقد حصل "اعتداء" فعلاً، ونتج منه "ارهاب" حقاً، لكن الارهاب والاعتداءات تحصل في شكل دوري على كوكبنا هذا من دون أن تشكّل الحد الفاصل الذي مثلته احداث 11 ايلول على المسرح العالمي. وإن الفظاعة الهائلة لما حدث ذلك الصباح ناجمة عن عملية القتل العشوائية الواسعة النطاق والمتعمدة للناس في وقت قليل، وذلك في اطار مثير للاشمئزاز لفرط ضخامته وعدد الابرياء الذين راحوا ضحيته، مهما كانت الدوافع التي حفّزت القتلة على ارتكاب مجازرهم تلك.

إن استخدام كلمة "مجزرة" (في صيغة الجمع او المفرد) و"جريمة ضد الانسانية" بدلاً من "اعتداء ارهابي" ليس محض تلاعب على الكلام، وعواقبه مهمة على الصعيدين القانوني والسياسي على حد سواء. بما أن احداث 11 ايلول جريمة ضد الانسانية، فيجب على منفذيها ومسهّليها ومحرّضيها أن يلاحقوا وفق القانون الدولي في جميع انحاء العالم، ومن واجب كل البلدان والحكومات ان تساعد في شكل فاعل في اعتقالهم ومحاكمتهم ومعاقبتهم بعد الاجراءات اللازمة. وفي حين يجب عدم استثناء الاستخدام الموزون للقوة ضد حكّام بلد يرفض التجاوب والتعاون مع العدالة الدولية حين تطالب هذه بتـسليم اولئـك الذين يخـفيهم هؤلاء الحكام او يحمونهم على اراضيـهم، فإن شنّ حرب مفتوحة على أي "ارهاب" أمر غير منطقي وغير عادل ولا نـهاية له. الاسئلة الخاطئة تستدعي اللاجواب (11). وقد فشلت مجموعات كبيرة من العلماء في ايجاد تحديد صالح للارهاب طوال المئتي عام الماضية، أي منذ ظهور الكلمة للمرة الاولى على المسرح العام للاشارة الى عنف الدولة الذي مارسه الراديكاليون خلال الثورة الفرنسية. وليس ثمة سبب يدعو الى الاعتقاد بأن العقل البشري سوف ينجح الآن في القيام بهذه المهمة المستحيلة. اذ ان الالتباس المرتبط بكلمة "ارهاب" يتيح لأي طرف او حكومة على هذه الارض بمواجهة اي عمل "ارهابي"، مثلما يحلو له، او لها، تحديده، عبر اللجوء الى شنّ حرب شاملة على بلد آخر. وقد يشكل رد فعل مماثل سوء تطبيق واضحاً لمبدأ العدالة الذي من شأنه التعويض عن ضحايا العنف السياسي. وليس ممكناً كذلك تجاهل المشكلة المزمنة للارهابي وللمقاتل في سبيل الحرية من خلال منظار التاريخ، ولا ايضاً مسألة "ارهاب الدولة".

على نقيض ذلك، يمكن تبرير استخدام العنف رداً على المجزرة التي ارتكبت في 11 ايلول لانها جريمة ضد الانسانية من حيث ضخامتها وجنسية ضحاياها وجورها - الا وهي عناصر مفهوم الجريمة ضد الانسانية. لكن يجب أن يكون العنف المنظم والمعلن والموزون موجهاً نحو مثول المسؤولين عن 11 ايلول امام القضاء كهدف رئيسي لاي إكراه يمارس في اطار هذا البحث الواسع النطاق. وذلك هو ايضاً سبب كون 11 ايلول فريداً من نوعه من نواح كثيرة، في حين ان الارهاب ليس كذلك.

فالاستخدام اللامحدود الشامل للقوة العسكرية المرتبط بـ"الاعتداءات الارهابية" قد وضع الكوكب على حافة حرب نووية عبر تمديده غير المبرّر لرد مبرّر على الجريمة ضد الانسانية التي ارتكبت في 11 ايلول، مما أفسح المجال امام ردود فعل ارتكاسية في نزاعات معقدة لطالما كانت موسومة بالعنف طوال عقود. ويتجلّى ذلك في شكل خاص في الازمات المزمنة بين الهند وباكستان حول كشمير، وبين العرب والاسرائيليين حول فلسطين. وهو متجسد كذلك في شكل مخيف في قضية الشيشان، وما هي سوى واحدة من مناطق القتل المستمر الكثيرة في جميع انحاء العالم.

إن التقدير السليم لما يكافح المرء من أجله أمر جوهري. فاذا كان الاميركيون وغيرهم موافقين على قلقنا بإزاء التحديد غير الصحيح، او غير الدقيق في افضل الاحوال، لرد فعل الحكومة الاميركية على مجازر ايلول، مثلما يتضح في اقتناعهم الواعي (او غير الواعي) عن استخدام كلمتي ارهاب وارهابي البدائيتين وغير الملائمتين في رسالتهم، يمكن اذاً التوصل الى اتفاق مهم حول التطبيق الشامل لحكم القانون. ويمكن آنذاك ايضاً تحقيق البحث المشترك عن "العدالة المطلقة"، مثلما اصابوا في وصفها في المراحل الاولى من رد الحكومة الاميركية، ليتم التخلي عنها سريعاً في ما بعد. وكان يجب على رد الفعل الصحيح ان يكون ناجماً عن الجمع ما بين العدالة ومعاقبة مرتكبي المجازر ومحرّضيها. فالعدالة تترجم في الحاجة الى ان تتعاون الانسانية جمعاء مع السلطات الاميركية بهدف اعتقال المسؤولين عن المجازر التي ارتكبت في 11 ايلول ومحاكمتهم، تماماً مثلما يجب على الاميركيين وغيرهم ان يدعموا معاقبة المسؤولين عن أي جرائم جماعية، وخصوصاً تلك التي تملك طبيعة دولية، بدءاً من المحرقة وصولاً الى الجرائم الجماعية المستمرة في الكونغو.

ويعني ذلك اتخاذ الاجراءات المناسبة، وإظهار تفانٍ أكبر في سبيل جعلها قضية دولية، وايجاد قضاة ومحاكم حياديين قادرين على مراقبة استخدام العنف هذا. ولا يمكن ان يعني ذلك منح ترخيص بشنّ حرب كلما ارتُكب "عمل ارهابي" في مكان ما من العالم. وإن الفئة التي يجب أن تنضوي تحت لوائها مجازر 11 ايلول يجب أن تُعتبر فريدة من نوعها في القانون الجزائي. فهي نظراً الى ضخامتها ووحشيتها تنتمي الى نوع محدّد من الجرائم المعروفة بـ"الانتهاكات الخطيرة للقانون الانساني الدولي"، مثلما وصفت هذه الجرائم في ميثاق روما حـول محـكمة الجـزاء الدولية ومـا لحـق بـه مـن معـاهـدات وقوانين في جميع انحاء العـالـم.

هنا يكمن الخطأ الجوهري للحكومة الاميركية في حربها الواسعة النطاق، وهنا يجد الدعم الذي تسعى اليه نقطة ضعفه في اوساط الجمهور الشرق الاوسطي الواسع. لن نتأمل في مسألة تجاهل الولايات المتحدة لقوانين محكمة الجزاء الدولية، لكننا ندعو زملاءنا الى التعويض عن هذا الفشل البارز من خلال التزامهم المبادئ التي يدافعون عنها، خصوصاً في اطار اصبحت ضمنه محكمة الجزاء الدولية ضرورية اكثر من اي وقت مضى بغية مواجهة اعمال القتل الجماعية على غرار تلك التي ارتُكبت في 11 ايلول (12).

وفق هذا المنظار الخطير، يجب على المشكلة ان تبدو واضحة الآن في رأينا بالاحداث التي تسارعت بعد 11 ايلول. ثمة حاجة الى مقاربة مختلفة، تحدّد فيها الفئات القانونية المعترف بها وفق القانون الدولي أي استخدام للعنف، وذلك في شكل محاكم محلية او دولية مستقلة وفاعلة قد يؤدي استخدام القوة الى تعزيز موقعها بدلاً من تقويضه. وتشكل محكمتا الجزاء الدوليتان في يوغوسلافيا ورواندا مثالين رئيسيين في هذا المجال، ومثلهما المحاكم الوطنية على غرار قرار مجلس اللوردات البريطاني في قضية بينوشي والآمال التي تزرعها - في بلجيكا والولايات المتحدة وغيرها من البلدان - السلطة القضائية الشاملة ويد العدالة الطويلة خصوصاً في ما يتعلق بالجرائم التي يصنّفها القانون الدولي كشائنة.

لا يمكن ان يتماشى دعم معاقبة ارتكاب الجرائم الجماعية على أيدي "أعداء" الولايات المتحدة، مع دعم ارتكاب الجرائم الجماعية على أيدي زعماء البلدان "الحليفة" للولايات المتحدة. فمن وجهة النظر السياسية، يجب مكافحة وباء المعايير المزدوجة على نحو علني ودؤوب، وليس ثمة منطقة تحتاج الى المثابرة اكثر من الشرق الاوسط، حيث السؤال حول "ما اسباب كرههم لنا؟" يجد جوابه في الادراك الشرق الاوسطي السائد للظلم المطلق الذي مارسته الحكومات الاميركية المتعاقبة طوال عقود من خلال دعمها العلني والمطلق للانتهاكات الاسرائيلية للقانون الدولي. ولا يقتصر هذا الشعور العميق بالظلم على دعم الولايات المتحدة للممارسات الاسرائيلية. فإحساس الشرق الاوسطيين العرب بأنهم يتعرضون باستمرار للخيانة او الخداع من جانب رجال السياسة الاميركيين يستند كذلك الى الدعم الاميركي الخفيض ولكن المتسامح، للحكومات الاستبدادية القائمة منذ زمن طويل في المنطقة، وخصوصاً الحكومات "الصديقة" للولايات المتحدة في الخليج العربي والمشرق.

لهذا السبب ايضاً يُفضّل اقامة الجدال على اساس وجهة نظر متجذرة في القانون بدلاً من الأسس الفلسفية التي تتضمنها عبارة "الحروب العادلة" الاوغسطينية، وغيرها من القيم الاميركية او العلمانية او الحضارية النسبية الاخرى (اي الاسلامية، الغربية، الاوروبية، اليهودية - المسيحية، العربية... الخ). اذ ان الفلسفة تأتي بعدما تتوقف أجنحة بومة مينيرفا (إلهة الحكمة عند اليونان) التاريخية عن التصفيق (13) - رغم انه صحيح ان تحليق التاريخ نفسه يتغذى ايضاً من قوة الأسس الاخلاقية، خصوصاً في انطباقه على الطرف الاضعف. إن اميركا تقف على ارض متقلقلة في التاريخ الحديث، وثمة موجة من انعدام الثقة (إن لم يكن من الكره) تتنامى سريعاً في صفوف اهل الشرق الاوسط بإزاء اولئك الذين يمثلون أعظم قوة خارجية في المنطقة الا أنهم يمارسون قوتهم هذه في شكل انتقائي ومتحيّز ومتقلّب (14).

نقطة خلافنا الجوهرية: السياسة الاميركية في الشرق الاوسط:

تأتي الرسالة الحالية في وقت تصاغ خلاله المراجعات السياسية من دون الاستناد الى المعلومات التي يقدمها سكان المنطقة، ويهدّد شبح الحرب العراق (15). وبقدر ما قد يبدو هذا الاقتراح في سبيل سياسة شرق اوسطية عادلة باهتاً، الا انه لا يُعتبر كذلك في الغرب، وتمثل وجهة النظر هذه التحوّل الاكثر أهمية الذي يجب تحقيقه في سبيل وضع حدّ لـ"كراهية الشـرق الاوسـط وانعـدام ثقـته" وللتـساؤل الاميركي المستمر حول "ما هي اسباب كرههم لنا".

وبما أن سياق 11 ايلول "شرق اوسطي" ويغطي مساحة كبيرة من العالم بدءاً من المغرب وصولاً الى باكستان، من الصعب تحديد اولويات على صعيد التطبيقات، وينزع التاريخ الى إرباك المحللين، خصوصاً في منطقة حيث تتحول الجمهوريات الاستبدادية سلالات حاكمة، في حين يتجه العالم ببطء، ولكن بثبات، نحو القواعد الاساسية للتحوّل الديموقراطي. إن الاضطرابات الدائرة في الخليج حول عراق متمرد، واستمرار النزاع العربي - الاسرائيلي - وهو الاطول اليوم في تاريخ العالم الحديث - يعوق أي تطوّر قومي بسبب ارتباط هذا بالنزاعين. ومنذ الحرب العالمية الاولى على الاقل، جميع البلدان والشعوب في الشرق الاوسط متشابكة على نحو وثيق (16). فالكويت والعراق يراقبان بعناية من طهران الى المغرب. والناس في بيروت وعمان تتابع في شكل يومي التطورات التي تطرأ في دمشق، في حين يراقب كل من الرياض ودمشق عن كثب ما يحصل في العراق. وجميع هذه تراقِب وتراقَب عن كثب في اسرائيل. من جانب اليهود وغير اليهود الواقعين تحت سيطرة اسرائيل. أقواس الازمات لا تحصى وتحمل شحنة اقليمية قوية. ومن الصعب احياناً قياس الواقع "العالمي" بمقياس المبدأ، وثمة اسئلة شرعية حول ما يجب منحه الاولوية على صعيد السياسة.

رغم صعوبة تحديد الاولويات، من الضروري السعي الى تطبيق "نظرية الدومينو" في الديموقراطية، بناء على الاعتقاد بأن مثال الديموقراطية في دولة ما سوف يُتبع وينتقل كالعدوى في جميع انحاء المنطقة (17). لكن التغيير سوف يحصل إما ببطء، اي من طريق تشجيع البلدان الاكثر اقتراباً من الممارسات الديموقراطية الاساسية والدفاع عنها ودعمها، وإما من خلال "ثورة" في البلدان حيث يدفع ثقل النظام الاستبدادي الى دعم الديموقراطيين الذين تسلموا زمام الحكم ويسعون الى تغييره بسبل سلمية (18).

هوامش:

1- لقد اخذنا في الاعتبار ردود الفعل المختلفة التي نُشرت عبر الموقع، وبعض الجدالات التي دارت في الصحافة العربية والفرنسية خلال العام الماضي. وبهدف التبسيط قد يكون مفيدا اختصار التبادلات: في الرسالة الاصلية، دافع ستّون مثقفا اميركيا عن رؤية رد الفعل العسكري على احداث 11 ايلول بناء على القيم الاميركية الديموقراطية، وهي قيم تتضمن كذلك ايمانهم بحرب عادلة، ومفهوم الفصل ما بين الدين والدولة. وقد تحدثوا كذلك مطولا عن استغرابهم بازاء استخدام الاسلام كسلاح كراهية، وتحدوا القراء المفترضين الذين لا يشاركونهم وجهة نظرهم بأن يشرحوا سبب عدم موافقتهم على ما تكافح الحكومة الاميركية من اجله (12 شباط 2002). ويشدد جواب 153 مثقفا سعوديا على التناغم بين القيم الاسلامية وتلك الاميركية والشاملة. وهو يستنكر مجازر 11 ايلول، لكنه شكك في غياب تقويم سببي بين 11 ايلول والسياسة الاميركية في الشرق الاوسط، ويطالب بأن تزداد تلك السياسة توازنا او بتخلي الولايات المتحدة عن المنطقة ككل، ويبرر هذا الامر في نظرهم عدم وجود ادراك سلبي للشرق الاقصى في المنطقة (كيف يمكننا ان نتعايش - www.islamtoday.net - 7 ايار 2002).

ردا على ذلك، شكك الكتّاب الاميركيون في تطبيق القيم الديموقرطية في المملكة العربية السعهودية. وسألوا زملاءهم السعوديين عن سبب التزامهم الصمت بازاء الانتهاكات المرتكبة في بلادهم وقيامهم بدلا من ذلك بالتشكيك في تلك المرتكبة محليا ودوليا من جانب الولايات المتحدة. وعن موقفهم من الجهاد و"التقوى الاسلامية مثلما تمارس في المملكة العربية السعودية" (هل في وسعنا ان نتعايش، رد من الاميركيين على زملائهم في المملكة العربية السعودية، 23/1/2002) كذلك ظهر ردان آخران على النص الاميركي الاصلي. ففي رسالة من مواطني الولايات المتحدة الى اصدقاء في اوروبا وقعها 141 مثقفا، يلقي هؤلاء الضوء على سوء استخدام مفهوم الدفاع عن النفس وعلى انعدام الوعي الواسع النطاق في اميركا في ما يتعلق بواقع ان "تأثير السلطة الاميركية في الخارج لا يشبه في شيء القيم التي يتم التغني بها في الوطن" (14 نيسان 2002). ونشرت رسالة اخرى من جانب الكتّاب الالمان في 2 ايار 2002 في Frankfurter Allegemeine (عالم من العدالة والسلام كان ليكون مختلفا)، ينتقدون فيها مواقف الحكومة الاميركية العدائية ونظرتها المتطرفة الى العالم وتحجرها امام قتل متفرجين ابرياء وعدم تعرضها لتأثيرات العولمة السلبية.

2- ان مفهوم "الطابع الشرق الاوسطي لـ11 ايلول" معالج بالتفصيل في مقال ملاط "11 ايلول والشرق الاوسط: هامش ام حد فاصل في تاريخ العالم؟" في "القانون الدولي منذ 11 ايلول"، مشروع جرائم الحرب Crimesofwar.org (الصادر كذلك بالعربية والفنلندية).

3-ان الزملاء الاميركيين يشيرون بايجاز في رسالتهم الى الفقر والهموم المادية كمشكلات اساسية في العلاقة بين المجتمعات الغربية وببقية العالم. الا ان هذه الاشارة عرضية في رسالتهم، واننا ندعوهم الى العمل على تقويم اكثر دقة وشمولا لتجاهل قادتهم مسألة انعدام التوازن في موارد العالم، مما يضاعف خطر ان تؤدي الضغوط والازمات المستمرة التي يعانيها العالم الى نقص عميق في المساواة بين رجال ونساء يعيشون على الكوكب نفسه. ويمكن ايجاد مقاربة استفزازية ولكن مفيدة لموضوع انعدام التوازن في موارد العالم في كتاب ادواردو غاليانو بعنوان "رأسا على عقب" (نيويورك 2000 - طبعة اولى 1998)، واذ تعترف الحكومات الغربية بالحاجة الى مكافحة الفقر وتجلياته الاخرى، بما فيها الامراض الوبائية على غرار الايدز، الا ان هذا الاعتراف لا يُترجم على الارض بتصحيحات جوهرية للسياسات الاقتصادية. راجع الفصلين 18 و19 من كتاب شبلي الملاط في عنوان "الديموقراطية في اميركا" (بيروت - آب 2001) - بالعربية). ولكن صحيح ان هذه الزاوية تشرع مدخلا عرضيا للمناقشة الدائرة، وثمة حاجة الى تناولها في منتدى آخر. وسوف نركز هنا على القيم الاخلاقية "الاميركية" وعلى السياسة المزعومة الناتجة من الحاجة الى حماية تلك القيم من جانب الولايات المتحدة بعد 11 ايلول مثلما شرحت في "ما نكافح من اجله".

4- ثمة حاجة الى تحديد جديد للحرب، وهو ممارسة شرعية تتخطى نطاق التبادل الحالي، وقد نوقشت في الفصول 11 و12 و14 و16 من كتاب ملاط "الديموقراطية في اميركا". ويمكن هذه الممارسة ان تكون قد انطلقت في اوساط اتخاذ القرارات في الولايات المتحدة، وخصوصا في اطار حرب العراق: راجع في هذا الاطار النجاح المستحق لكتاب ايليوت أ. كوهن بعنوان "القيادة العليا" الجنود ورجال الدولة والقيادة في زمن الحرب" (نيويورك 2002)، ولكن ايضا انتقادنا لنواقصها في "نظرية جديدة للحرب تجد طريقها الى جوار الرئيس بوش" (الديلي ستار، 21 ايلول 2002). اما الاكثر اثارة للاهتمام فالروابط بين القيم الاخلاقية في السياسة الخارجية واستخدام القوة كملجأ اخير، وهي روابط القي الضوء عليها في اعمال هارولد كوه (الحاجة الى اعتماد سياسة خارجية مرتكزة على احترام حقوق الانسان على نحو علني وثابت) وبول كاهن (كيف يمكن العنف ان يكون اخلاقيا؟) وتوماس فرانك (الحكم الديموقراطي كحق اساسي). وبسبب الاطار الاستعماري الفريد للقرنين التاسع عشر والعشرين، قدم كلاوسفيتز وهوشي مينه وفرانتز فانون مساهمات اكثر دقة حول الحروب الحديثة من القديس اغسطينوس، في حين قدم المؤرخ وعالم الاجتماع من القرن الرابع عشر ابن خلدون مساهمات كثيرة حول ديناميات القبلية اكثر جاذبية من مساهمات العلماء الاسلاميين حول الجهاد، التي تعتبر عموما من ادب السِيَر: ويتضمن موجز القانون الاسلامي الكلاسيكي كتابا عن السير (راجع على سبيل المثال المجلد العاشر من "المبسوط"، وهو مجموع ابحاث العالم السرخسي من القرن الحادي عشر. وكانت تلك الكتابات تعرف سابقا بالمغازي) يناقش فيه قانون الحرب.

5- الامثلة معيارية، وقد ذكر الزملاء السعوديون الرئيسية منها: وخصوصا الوصية القرآنية: "لا اكراه في الدين" التي نسبتها كتابات اخرى الى ملحق الخليفتين عمر وعلي. وفي التقليد المسيحي، تستخدم قصة غضب يسوع على تجار الهيكل لتحريف رسالة السلام واللاعنف المتضمنة في العهد الجديد، ويستند انصار العنف اليهود الى بعض المقاطع العنيفة من كتاب يشوع التي تتعارض مع الدعوة الى الصبر ورباطة الجأش والمقاومة السلمية في كتاب ايوب او الانبياء.

6- في ما يتعلق بمفهوم التقديس، ولفهم افضل لاستمرار التاريخ الديني، من الضروري مراجعة اعمال الراحل جون وانزبرو، وكذلك الاعمال التفسيرية للمفكر الاسلامي الابرز في القرن العشرين محمد باقر الصدر الذي اغتالته الحكومة العراقية في نيسان .1980 وان الـDeutungsbeduerftigkeit وهو الطابع الادبي الجوهري للنصوص المقدسة الذي يتيح مجموعة كاملة من التفسيرات والتأويلات، يستدعي التفسير من دون شك، وهو ايضا مفهوم لوانزبرو. وثمة مناقشة موسعة لهذا الامر في نص ملاط: "قراءات للقران في النجف ولندن: جون وانزبرو ومحمد باقر الصدر" - مجلة معهد الدراسات الشرقية والافريقية - :57 1 - 1994 - ص 158 - 73).

7- ان هاتين الحقيقتين، اي الـDeutungsbeduerftigkeit والدين كرسالة سلام الهية (لاحظوا المعنى الاتيمولوجي للاسلام، من سلم، اي سلام) تؤدي كذلك الى غرق الدراسة المقارنة في جدالات بيزنطية حول ما هو مشترك بين جميع الديانات وما يفرق بينها. ونظرا الى ان صموئيل هانتنغتون هو احد موقّعي الرسالة الاميركية، قد يكون من المفيد اعادة النظر في الطابع الاحادي الجانب (ولكن ثمة جانب واحد صحيح) لصدام الحضارات (1993 كمقال، 1995 ككتاب، مع تحديد الحضارات دينيا) في ضوء هذه الثنائية. وبغية الاطلاع على مناقشة مبكرة لمشكلة مطروحة على نحو ضيق للغاية، راجع كتاب ملاط "الشرق الاوسط في القرن الحادي والعشرين" (لندن 1996 - ص 174 - 175)، والكتابات المذكورة.

8- ان الترجمة الاكثر دقة لـ"ما نكافح من اجله" يجب ان تكون "ما نجاهد من اجله" (من مصدر "جهاد")، ما يقدم مثالا بسيطا عن الايكزوتيكية السياسية واستقطابها الشائن، على غرار استخدام "الله" للحرب و"الجهاد" للحرب او العنف. وقد برعت ماريا روزا مينوكال في اظهار ذلك في احد كتبها اذ قالت: "احد الاساليب الخاطئة والمشوهة التي نتحدث بها عن الاسلام في اللغة الانكليزية هو استخدام كلمة "الله" بالعربية كما لو انها اسم علم، مما يولد الانطباع الخاطئ بأن المعني اله آخر" (من كتاب "زخرف العالم"، نيويورك ،2002 ص 18). ومن المجدي الكف عن استخدام الكلمتين، بالاضافة الى كلمة "القاعدة" الغامضة، التي تؤدي دور الفزاعة وتفرّق بين الناس عبر استخدام غريب وخاطئ للكلمات. فكلمة القاعدة تعني القانون والاساس على حد سواء، ومن الصعب ان يكون المرء ضد القوانين والأسس. ويمكن بدلا من كلمة "القاعدة" استخدام عبارة الاسلاميين المتطرفين اي السلفيين (من السلف، والمماثلين للاشكال الاصولية من المسيحية السياسية) او الوهابيين للاشارة الى شبه الجزيرة العربية كمنشأ للفرع ذي التوجه العنيف والمرتبط بأسامة بن لادن.

9- ان الحكومة الاميركية هي التي حالت دون ذكر الارهاب كجريمة في قوانين روما لمحكمة الجزاء الدولية، بسبب غياب تحديد ملائم له. وقد كان هذا الموقف - ولا يزال - صحيحا.

10-يجب ان نلاحظ استخدام كلمة "القتل الجماعي" في نص الرسالة الاميركية لكن هذا الامر يشكل استثناء في اطار وصف مجازر 11 ايلول التي يشار اليها بـ"الاعتداء الارهابي" في الوسائل الاعلامية الاميركية، وفي احاديث الحكومة الاميركية على حد سواء. وثمة مقال يتناول موضوع "الاندفاع الى الحرب والحاجة الى وصف صحيح لـ11 ايلول" بفكر تحليلي قريب من ذلك المقترح هنا، كان نشره خوان أ. مينديز بعنوان "سياسة حقوق الانسان في عصر الارهاب" (نشرة كلية الحقوق في جامعة سانت لويس، ،46 ،2002 ص 377 - 403).

11- جون هارت ايلي، "الديموقراطية وانعدام الثقة" (كامبريدج 1980) - (كيف تحول المراجعة الدستورية دون طغيان الاكثرية) ص ،43 مسشهدا بألكسندر بيكيل.

12- على نحو بديل، اذا كانت حكومة الولايات المتحدة تبحث عن "نهاية كانطية للتاريخ" بمعنى الغاء العنف السياسي على الارض (مثلما يستلزم التحديد العملي الوحيد الممكن للارهاب)، فان سيطرتها على الكوكب بالسبل العسكرية تبدو شرطا لا مفر منه لتحقيق ذلك الهدف. لكن هذا الايمان سلام دائم بالكاد يشكل تبريرا قدّمه كاتبو الرسالة الاميركيين، او هدفاً مقبولاً او واقعيا للحرب الحالية، واننا نثق بأن الموقعين لا يعتقدون حقا ان الحرب التي تضع حدا لكل الحروب هي ما تكافح حكومتهم من اجله. فاذا كان الارهاب يعني استخدام العنف لأهداف سياسية (ضد المدنيين عموما، ولكن ليس بالضرورة، مثلما نص التشريعان الالماني والبريطاني في السبعينات والثمانينات) اين يضع ذلك تحديد كلاوسفيتز العلمي للحرب كـ"استمرار لسياسة الدولة بسبل اخرى"؟ وكمتابعة مهمة لهذه المناقشة الجانبية، قد يكون مغريا ان ننظر في بحث ايمانويل كانط الوثيق الصلة بموضوعنا هذا حول السلام الدائم (Zun ewigen Frieden، 1795) كأفق اكثر طموحا لأي مسعى مشترك من مقومات "ما نكافح من اجله" او هذا الرد بالذات. فكانط يكتب على نحو تنبؤي في "الشريط النهائي لسلام دائم بين الدول" ان "كل جار يجب ان يضمن للآخر أمنه الخاص، وهو ما لا يمكن ان يتحقق سوى في حال التشريع". وان هذه السابقة حول ان "الديموقراطيات لا تخوض حروبا واحدتها ضد الاخرى" مشروحة بمزيد من التفصيل من خلال اخضاع المسرح المحلي والدولي والكوني لـ"حال التشريع"، ما يعني بالنسبة الى كانط "الحق المدني، المقصور على شعب ما Jus civilatis... وحقوق الامم التي تنظم العلاقات بين الامم Jus gentium. والحق الكوزموبوليتي من حيث ان الرجال او الدول يؤثرون واحدهم على الآخر كميزة من مقومات الصفة العظيمة للجنس البشري Jus cosmopoliti*****" - (كانط - السلام الدائم- نيويورك 1932 - ص 10-11). ويستحق هذا البحث مراجعة شاملة لتبصّره الفريد من نوعه الى جانب البحث العظيم الذي انجزه الفيلسوف العربي ابو العلاء المعري (توفي عام 1058) الذي كتب "رسالة الغفران"، وهي تشكل سابقة للكوميديا الالهية اذ تتضمن الخصائص المخلّصة لعدد كبير من الشخصيات الادبية والفلسفية رغم ان مصيرها كان الجحيم.وقد قام المعرّي كذلك بالاضافة الى مراجعة موزونة لكل الاديان، بمعارضة قتل الحيوانات في سبيل تأمين الغذاء للانسان، بما في ذلك من استيلاء على عسل النحل لفائدة الانسان. وفي حين ان مسألة السياسة والدين اوسع من ان نستطيع مناقشتها هنا بأكثر من ذكر التوافق على ان استخدام العنف باسم الدين لا يمكن ان يكون مقبولا قط، الا ان المسافة بين الاثنين في ما يتعلق بالدولة مسألة لا تنفك تطرح غربا وشرقا على حد سواء. فصحيح انها حائرون للغاية بازاء المسيحية الصهيونية المزعومة في الولايات المتحدة، الا انه صحيح كذلك انه لا يُفسح مجال كاف لنشوء دولة "حيادية" في الشرق الاوسط، قد تؤدي الى خفض عتبة التسامج بازاء الاهتداء الديني او بازاء انتقاد اي من الاديان. وان مدخلا مفيدا لمناقشة "قوانين التجديف" يتمثل في النصيحة التي وجهها شاعر عام 1923 الى ابنائه: "ولا تتعصبوا ابداً لدين فكل تعصب يشقي ويردي، لكل دينه ولكل دين مصون كرامة تأبى التحدي".

13- هيغل في "المقدمة" لـ"فلسفة الحق" (1820). ويمكن ايجاد استعارة مماثلة في كتاب الرئيس محمد خاتمي (الخوف من اجل - طهران 1993) الذي يشير عنوانه الى بيت شعر شهير للشاعر الفارسي العظيم حافظ يطلب فيه الخلاص من امواج التاريخ المظلمة عبر المعرفة والحكمة.

14- ان توجيها عمليا وبسيطا يقوم على دليلين يجب على زملائنا الاميركيين عبر المحيط دفع صانعي السياسة الى اعتمادهما بغية قلب معادلتي "الكراهية" و"انعدام الثقة" اللتين تميزان الطريقة التي ينظر بها الشرق الاوسطيون العرب الى الظلم المتزايد في السياسة الاميركية منذ ما لا يقل عن نصف قرن:

الدليل الاول: اصغوا الى شعوب المنطقة. فعقد القمم على نحو منتظم والسفارات الشرق الاوسطية في اوروبا واميركا، غير كافية لا بل مشوهة للواقع احيانا. فالحكومات تفتقر عموما الى الشرعية، والقادة الشرق الاوسطيون شهيرون بازدواجية كلامهم. اذ انهم مهتمون باستمرار حكمهم اكثر من اهتمامهم بأي مسألة اخرى، ويتفاعلون تاليا مع اي ازمات وتحديات كبرى بناء على هذا الهم الرئيسي سواء أكانت الازمات متعلقة بفلسطين ام بالعراق ام "بالاصولية الاسلامية". وفي اطار كهذا، تزداد الهوة بين الشعوب والحكومات اتساعا يوما بعد يوم، وتزداد اصوات المواطنين الفرديين تعرضا للتشويه عندما تتحدث حكوماتهم باسمهم في الخارج.

وكنتيجة طبيعية لهذا الواقع، يجب على المجتمع المدني في اوروبا والولايات المتحدة ان يجبر حكوماته على الانفتاح على المجتمع المدني في الشرق الوسط، وعلى الحد من تعاطيها مع حكومات المنطقة. ومن الضروري طبعا ان يتم هذا التحول على نحو علني وحاسم، بلا خجل. فاذا كان ممثلو المجتمع المدني يبدون سياسيين او متطلبين، ليس ذلك بسبب للابتعاد عنهم. ففي بلدان الشرق الاوسط، ثمة افراد كثيرون يظهرون استعدادا لقول الحقيقة في الشؤون السياسية، اكبر من استعداد رؤساء دولهم، وهم يستحقون تاليا قدرا اكبر من الاهتمام والاحترام طبعا. ويجب الا يتردد المسؤولون الرسميون وقادة المجتمع المدني على حد سواء في الغرب، في الانفتاح على تلك الفئات من المجتمع المدني الشرق الاوسطي التي يقدّرون قيمها. ويجب تشجيع قادة المجتمع المدني في الشرق الاوسط داخل شبكاتهم المحلية والاقليمية والعالمية، كما يجب دعمهم ماديا وبنيويا وسياسيا، والاهم من ذلك هو منح هذا الدعم في شكل علني ومباشر، عبر تجاوز رؤساء الحكم وعبر العمل ضدهم عند الضرورة في سبيل ارساء التغيير السياسي غير العنف في موقع القمة.

الدليل الثاني: يجب اجبار القادة الغربيين على التفكير بناء على المبادئ. وتحتاج اميركا واوروبا الى الالتفات الى الدعوة الصارخة الى التغيير، والى دعم النداءات التي تتلاقى مع قيم الحرية والتطور الغربية... ان اي نسبية في الحقوق هي ستارة للقمع. واي ازدواجية في المعايير تُلاحظ على نحو حاد في الشرق الاوسط وفي حين يمكن عبارة القيم الشاملة ان تتخذ شكلا محليا، يجب تشجيع العبارات "الاهلية" طالما انها تندرج في اطار الشامل للحقوق الذي يشمل كل انسان على الكوكب، وان قائمة التدقيق الثنائية التالية بسيطة بما فيه الكفاية. اذ انه مطلوب من الغربيين معاملة الشرق الاوسطيين كرفاق في البشرية، بدلا من اعتبارهم فئة خاصة تنطبق عليها مجموعة منفصلة ("اقل انسانية") من القيم:

1- هل اصغيتُ الى "الاصوات الحقيقية" في الشرق الاوسط اليوم، بعيدا عن العدد اللامتناهي من اللقاءات الرسمية؟ هل منحت ما يكفي من الوقت والدعم العلني للشعوب بقدر ما منحت حكوماتها؟

2- هل كان تفكيري مرتكزا على المبادئ، هل عاملت قادة الشرق الاوسط وشعوبه بالطريقة نفسها التي كنت لأعامل بها نظرائي الكنديين او الفرنسيين؟ هل اعدتُ تنظيم اولوياتي على صعيد موقفي من الشرق الاوسط من دون ان اضحي بمبادئي؟

15- يجب على الزملاء ان يقدروا واقع ان الرسالة التي يرفعها الشرق الاوسطيون كـ"مجتمع مدني" غير متناسقة مع تلك التي يرفعها المثقفون الاميركيون: اذ اننا نعاني في بلداننا مشكلة نقص الديموقراطية على نحو اكثر حدة مما تعانيه شعوب الغرب في بلدانها، والمسافة التي تفصل بيننا وبين حكوماتنا اكبر بكثير من المسافة بين الغربيين وممثليهم المنتخبين. ومن شأن هذا الواقع ان يستحق تقديرا للمهمة الاشد صعوبة وتعقيدا التي يواجهها المرء على صعيد صوغ سياسة بديلة متكاملة مثلما سنخطط لها هنا، وعلى صعيد اللغة المجازية التي نحتاج اليها لاجتناب اخطار القمع. وان المشكلات التي واجهها الزملاء السعوديون بعد نشر رسالتهم تشكل مثالا معبرا على ذلك.

16- بغية الاطلاع على معاينة متوازنة وغنية حديثة العهد، راجع كتاب غسان تويني وجان لاكوتور وجيرار خوري في عنوان "قرن من اجل لا شيء" - باريس - 2002 un siecle pour rien.

17- احد المدافعين عن نظرية الدومينو هو البروفسور برنار لويس، وقد تحدث عن مفهومه هذا في مقال في "النيويوركر"، وفي محاضرة حول مستقبل العراق في معهد المشاريع الاميركية (في تاريخ 5 تشرين الاول 2002). ويمكن مراجعة كامل النصوص على موقع www.aei.org.

18- لقد ادخل جهاد الزين مفهوم "المشروع الثوري الاميركي" في مقالاته الاخيرة في صحيفة "النهار" اللبنانية.

ترجمة جمانة حداد


 
 روابط ذات صلة
· زيادة حول أقوال الصحف
· الأخبار بواسطة editor


أكثر مقال قراءة عن أقوال الصحف:
مؤشرات لصيف سياسي ساخن بالجزائر


 تقييم المقال
المعدل: 2.07
تصويتات: 13


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ


 خيارات

 صفحة للطباعة صفحة للطباعة