بوابة الخيمة

editor

عين على الإعلام مسلسل"أم كلثوم"..ومسائل ثقافية ذات علاقة.

(1).

مسلسل أم كلثوم أثار كما هو معلوم بعض "اللغط"في الساحة الثقافية، والذي يبدو أنه أثار استحساناً جماهيرياً وهذه النقطة لها دلالتها التي لا يجب أن تخفى على المحلل،وهو أخيراً أثار سجالات بين القائمين على المسلسل وزملاء لهم عرب لم تخل من ضيق صدر بالنقد في جهة القائمين على المسلسل ومن نقد متهافت لا يجعلنا نستبعد وجود "حسد وضيقة عين"في جهة النقاد. في هذه الساحة الراكدة المُحْبَطة المهزومة لن يفوتنا أن نرى دلالة أحداث بسيطة من نوع تعاطف الناس مع فيلم "ناصر56"وأيضاً مع مسلسل "أم كلثوم" وبالمثل انتشار موجة المسلسلات التاريخية السورية من نوع مسلسلات"أبو كامل"و"أخوة التراب"و"خان الحرير"..ألا تدل هذه الموجة على تعطش الناس للأمل..للإمساك بطرف خيط هاد للعودة إلى الطريق المهجور:طريق الحرية والعدالة ،طريق الهوية المضيعة ،طريق الذاكرة المفقودة؟ أذكر ذات يوم أنني قلت للمخرج العربي السوري"محمد ملص" في نقاش عام جرى لفيلم"أحلام المدينة"_عام1985_بعد عرضه في مدرج كلية الهندسة في جامعة دمشق"إن هذا الفيلم في غاية الأهمية لأنه أول فيلم عن التاريخ القريب الذي نسي حتى صار كأنه تاريخ عصور ما قبل التاريخ..تاريخ الخمسينات!وبالفعل منذ ذلك الفيلم أخرج المخرج نفسه فيلم"الليل"وهو أيضاً عن ذلك التاريخ القريب البعيد وأخرجت أفلام أخرى منها هذا الفيلم الذي لا يزول أثره من القلب بسهولة:فيلم"ليالي ابن آوى"لمخرجه عبد اللطيف عبد الحميد وهو يتناول حياة تلك الشريحة الطيبة:شريحة فلاحي الساحل السوري وتفاعلها مع الأحداث الكبرى في الستينات وهنا يشاهد الجمهور حقاً وقائع قريبة عادية مألوفة جداً غريبة جداً منسية جداً!وقد ذكرت هنا هذه الأفلام اللطيفة الملفتة للنظر مؤجلاً الحديث عن عيوبها الفنية والمضمونية لأنني أريد هنا أن أركز على حسنتها الكبرى:إنها تسير في الطريق الصحيح:طريق استعادة الذاكرة،استعادة تفاصيل الطريق الذي سارت عليه الأحداث التي عصفت بأمتنا .هذا الطريق الذي مرت عليه مدحلة هائلة محت تفاصيله وعلاماته الدالة: مدحلة أعداء الذاكرة العربية الذين بدا لوهلة أنهم انتصروا في معركتهم لتزييف التاريخ كما انتصروا في معركتهم التي هدفت إلى تحويل العرب إلى أمة مستَلبة مستَعبَدة، بدا كأنهم أقنعوا الشعب العربي أنه كان دوماً مستعبداً ذليلاً كما بدا أنهم أقنعوه أن عبوديته الراهنة لا خلاص منها.

استعادة الذاكرة تعني تذكر الهدف من جديد بعد نسيانه. تخيلوا مسافراً أصابته صدمة وهو في منتصف الطريق فنسي من أين جاء وإلى أين يريد الذهاب. ألن يكون هذا المسافر كريشة في مهب الريح؟ كنبتة مقتلعة بلا جذور لا مستقبل لها إلا التلاشي؟ إن أول شروط الوجود الفاعل في الحياة هو وجود جذور وهذه الجذور موجودة في الذاكرة بل قد نقول إنها هي الذاكرة بعينها. ).

(2).

قرأت قبل مدة في"القدس العربي"نقلاً لآراء للمخرج التلفزيوني نجدت أنزور في نقد مسلسل"أم كلثوم"ومن المفيد في رأيي التأمل في هذه الآراء بغض النظر عن الدوافع الشخصية(والنفسية!)التي قادت السيد أنزور ليقول ما قاله في مقاله في جريدة"الدستور"الذي لخصه مراسل"القدس.."في عمّان إذ أن هذه الآراء متداولة في الوسط الثقافي السوري الذي ينتمي إليه كاتب هذه السطور أيضاً ومن المفيد نقدها لفصل قمحها المفيد عن زوانها الضار: يوجه أنزور نقداً صائباً لمسلسل أم كلثوم من حيث سطحية تقديمه لشخصية أم كلثوم: "إن فن الدراما التلفزيونية الذي يقدم رواية كبيرة وممتدة في المسلسل الطويل يجعلنا ملتزمين بأن نتناول كيمياء شخصية أم كلثوم لا صورتها المسطحة وهذا يعني تناول عناصر قوتها وعناصر ضعفها". وبالفعل فإن المسلسل قدم أم كلثوم في صورة مثالية يستحيل أن تكون واقعية ومن الغريب أن المسلسل لم يوفر أياً من الشخصيات الفنية الأخرى التي قدمها من النقد والنقد اللاذع أحياناً كثيرة، فقد كان هناك نقد لاذع لمحمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي وزكريا أحمد أيضاً وثمة هجوم شخصي عنيف هو أكثر من مجرد نقد لاذع على منيرة المهدية وعلى زوجة القاضي والصحفي وجدي هيكل ولم يسلم على ما أظن إلا رياض السنباطي الذي حاز لأسباب مجهولة لوحده على رضا الكاتب أو الكاتب والمخرجة فلتهن "أبا أحمد" رحمه الله السلامة! وهذا شيء لا يجب أن يمر بالمناسبة هكذا ومن الغريب أن يمر هكذا بدون عواقب فمن بديهيات الأعمال الفنية أو أي نوع من المطبوعات أن تراعى فيه مبادئ عدم التشهير الشخصي بالأشخاص الحقيقيين وبعض من شهر بهم المسلسل يمكن أن يكونوا هم بالذات لا يزالون على قيد الحياة فإن لم يكن فأقاربهم الأقربون مثل الأبناء والبنات ولا بد لنا هنا من أن نعطي الحق لعائلة القصبجي التي استاءت من المسلسل إذ أن الطبيعة الكوميدية للشخصية التي جسدها الممثل الكوميدي أحمد راتب لا تخلو مهما قلنا من بعض الانتقاص من شخصية الموسيقار الراحل. وفي الوقت نفسه يبدو أن عائلة أسمهان كانت بعيدة النظر حين طلبت من القائمين على المسلسل حذف شخصية أسمهان منه خصوصاً حين نرى ما جرى للمنكودة منيرة المهدية من "بهدلة" فيه!. وفي رأيي يجب عدم "مثلنة" أي شخصية كانت في الأعمال الفنية لأننا يجب أن نعود أنفسنا ونعود الناس على الرؤية الموضوعية للشخصيات وهذا هو أول الطريق لمن شاء أن يبني شخصية عربية شبت عن الطوق وبلغت مرحلة النضج واستغنت عن السير معصوبة الأعين وراء قيادات ممثلنة سياسية أو فكرية أو فنية ولا بد لنا هنا من أن ندعو إلى تغيير مفهومنا للمثل الأعلى من مثل أعلى معصوم إلى مثل أعلى تكمن عظمته في أنه يخطئ ويستطيع أن يتجاوز أخطاءه وينقدها ولنا في القرآن الكريم المثل الأعلى ففيه نقد لبعض اجتهادات النبي عليه الصلاة والسلام وكأنه يريد أن يعلمنا كيف ننقد أنفسنا وأبطالنا أيضاً. وأنا هنا لا أجهل أن المثقفين عندنا سرت في صفوفهم موضة احتقار "النقد الأيديولوجي" أما كاتب هذه السطور فقد جعل ديدنه وشغله الشاغل محاولة اجتثاث هذه الموضات التي لا تقوم على أية أرضية نظرية منهجية راسخة وإنما هو التقليد الأعمى يتوارثه سطحي عن سطحي! "النقد الأيديولوجي" لا غنى عنه في أي مجتمع كان وهو في مجتمعنا بالذات ضروري أكثر من أي مجتمع آخر وأحب هنا أن أستشهد بقول صائب لشخص لم أعد أرى عنده شيئاً صائباً غير هذا القول وهو فيلهلم رايش: "من هذا الذي يشغل نفسه ببحوث جمالية عن معنى اللون عند الصراصير وهو جالس في بيت يحترق؟" ومن هذا النقد الصائب ينطلق أنزور إلى نقد غير صائب يستند في الحقيقة إلى جذر فكري أعرفه جيداً في الساحة الثقافية السورية التي عشت فيها طويلاً ولا أزال أعد نفسي جزءاً منها وهو "الجذر الشكلاني" كما أسميه. بعد المرحلة الطويلة التي سادت فيها الواقعية في الأدب السوري بدأت الموضة الشكلانية تغزو هذا الأدب مع مطلع السبعينات وتأخذ شكل جمل مبتسرة براقة يأخذها واحد عن آخر ويرددها بلا تفكير. بدأت هذه الموضة شديدة الضرر في الشعر ثم انتقلت إلى القصة والرواية والمسرح ثم إلى الدراما السينمائية والتلفزيونية وإلى الرسم والنحت أيضاً وقادت في رأيي إلى تحطيم المواهب الأدبية الشابة وحالت دون ظهور أي قصاص أو شاعر أو مسرحي أو فنان تشكيلي كبير في الثمانينات أو التسعينات في سورية. من هذه الجمل المبتسرة "الفن هو الشكل الفني" و "الشعر هو الصورة الشعرية". وسادت أحكام تشهر فوراً في وجه أي نص واقعي، في الشعر مثلاً يحتقرون الوضوح وفي القصة يقولون "هذا سرد تقليدي" وتحولت "الرواية الشابة" إلى نص متفكك طويل يماثل في استحالة قراءته غالبية "الشعر الشاب" وفقد مجتمعنا –وكأن هذا ما كان ينقصه- إمكانية التعبير القصصي عنه وجهل هؤلاء "الأدباء الشباب" الذين هم أنفسهم يقومون بدور "النقاد الشباب" الطبيعة الأيديولوجية الخفية لهذه الموضة الجديدة ولا عجب في ذلك فهي في أصلها البعيد مستوردة! وهذه الطبيعة الأيديولوجية ما هي إلا الفردية النرجسية في أعلى مراحلها، وتسلل هذه الرؤية إلى أدب أمة مهددة في وجودها بالذات هو هدية تقدم لأعداء الأمة في الخارج والداخل وهذه هي الحقيقة التي يجب أن نشهرها في وجه مثقفين زائفين يملؤون الدنيا ضجيجاً بجمل فارغة براقة هم بالذات لا يفهمونها ويحسبونها تحوي جماع العلم وآخر صيحات التقدم وما هي إلا السراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئاً. ومن العجيب أن هؤلاء الذين طالما وجهوا سهام النقد لعمود الشعر العربي لأنه يفرض معايير ثابتة على الشاعر أن يلتزم بها لم يكتشفوا انهم بنزعتهم الشكلانية السطحية هذه يفرضون أيضاً معايير ثابتة متعصبة للشعر و للأدب تحد أيضاً من حرية الأديب. ومن افتراءات هؤلاء الكبرى زعمهم أن الشعر العمودي شعر مديح وأقول: كم من شاعر عمودي تسبب شعره في قتله وسجنه وبالمقابل أروني يا سادة شاعراً واحداً من هذه المدرسة السوبر حديثة لاقى الاضطهاد بسبب قصيدة من قصائده وبالعكس فإن الغموض في هذا الشعر يساعده على التهرب من تحديد موقف على حين يعبر الوضوح المحتقر في الشعر العمودي عن الموقف ويدفع الشاعر ثمنه وقد سمعت أن محمود درويش يريد أن ينسى "سجل أنا عربي" وأقول له: لولا "سجل أنا عربي" وأخواتها لكنت أنت شاعراً من ألف شاعر عربي حديث لم تسمع به إلا شلته الشعرية!فكن وفياً لنتاجك بالذات يا محمود! وبناء على هذه الخلفية يجيء نقد أنزور غير المحق لمسلسل أم كلثوم في جانبه الثاني: "رغم أن المسلسل هو أهم عمل تلفزيوني مصري في اواخر القرن العشرين وبداية الألفية الثانية ورغم الميزانية الضخمة التي رصدت له إلا أن مخرجته أصرت على إخراجه بطريقة الستينات أي بطريقة التلفزيون وهو ما زال يحبو ويلتهم كل ما يصادفه في حبوه الغريزي والبدائي، فقد بقي الإخراج معتمداً على خطته المشهدية بأن نبدأ المشهد بلقطة عامة ثم يجلس الممثلون فننتقل إلى لقطة متوسطة ثم نتابع الحوار بتصوير المتكلم بلقطة كبيرة حتى نهاية المشهد وهذا الإخراج البدائي يقوم به أي منفذ أخبار أو فني مونتاج يعرف كيف يقطع ويصل اللقطات، إنه فعل يقوم به منفذ تصوير لا مخرج كما أن التركيز الشديد على لغة الحوار والجمل الطويلة والسيرة الأرشيفية وذلك على حساب الحركة والصورة والديكور وعناصر الدراما الأخرى حول العمل برمته إلى مسلسل إذاعي بحيث أن من يغمض عينيه ويستمع إلى حوار المسلسل لا حاجة به إلى أن يشاهده". وكما يرى القارئ تحرك عقلية الموضة هذا النقد من الألف إلى الياء فمسبة كبيرة عند أنزور والوسط الثقافي الذي وصفته أن يقال للقصاص أو الشاعر "عملك هذا يشبه أعمال الستينات" إن عقلية الموضة تناسب سيدات المجتمع المخملي ولكنها لا تناسب في رأيي بل هي أبعد ما تكون عن مناسبة المفكر والفنان والأديب بل بينها وبين هؤلاء ما بين السماء والأرض والثرى والثريا. ورؤية أنزور الشكلانية هذه تنتمي كما قلت قبل قليل إلى الموضة المستوطنة في الثقافة السورية منذ السبعينات فأنزور يريد أن يبني "عموداً للدراما الحديثة" كما بنى الشعراء الحديثون عندنا "عموداً للشعر الحديث" مترسمين خطى أدونيس الذي هو في رأيي قد يكون شاعراً من الدرجة الأولى ولكنه منظر من الدرجة العاشرة (فلماذا تحتقرون يا سادة عمود الشعر القديم وتتهمونه بتقييد حرية الشاعر وأنتم تبنون له عموداً هو اكثر محدودية وأقل أصالة!) ببساطة أقول لأنزور: هل تريد أن تفرض شكلاً واحداً على المسلسل التلفزيوني مهما كان موضوعه؟ وهل تريد أن تصنع مسلسلاً عن حياة مفكر أغلب حياته تأمل ونقاش أو مطرب حياته غناء ونقاش مع الملحنين بنفس أسلوب مسلسل مغامرات خيالية من نوع "الجوارح" أو مسلسل معارك حربية مثل "أخوة التراب"؟ إن مسلسلاً عن أم كلثوم بطريقتك التي تدعو إليها سيكون هو الفشل أو البؤس بعينه وقد آن للفن السوري أن يتخلص من هذه الشكلانية ويعود إلى تقاليده الواقعية الجميلة. وأنزور يتكلم بجدية عن أننا "تصلب عودنا وأصبحنا قادرين على المنافسة بمستويات متقدمة" إن تعبير "مستويات متقدمة" هو تعبير مليء بالأوهام بل هو تعبير فارغ يعود إلى عقلية الموضة التي تكلمت عنها وفي هذه العقلية شيء لا إنساني يجب على المنظر الذي يحترم نفسه أن لا يمرره إذ أن هذه العقلية تتعامل مع نتاج الروح الإنسانية، مع الفن والفكر، على أنه شيء فكما أن السيارة موديل ألفين "متقدمة" على السيارة موديل ألف وتسعمائة وتسعة وتسعين فكذلك الفن الذي خرج من صرعات باريس في عام السبعين متقدم على ذاك الذي أنتج عام الستين وهذا وهم كبير وأقول لأنزور بكل صدق: لم أر في هذه "الدراما المتقدمة" التي تتباهى بها شيئاً يقارب في العمق والجمال والنفاذية مسلسل "أسعد الوراق" الذي أنتجته الدراما السورية في الستينات! أما الوهم أن الأدب أو الفن العربي عموماً يمكن أن يصبح عالمياً فهو وهم شائع عند مثقفينا وأنا شخصياً لا أشك في استحالته. إذ أن الفن العربي،أي الناطق باللغة العربية،لن يكون عالمياً حتى تذوب الثقافة العربية في"الثقافة العالمية"وهذه الثقافة هي الثقافة الغربية و"العالم"ما هو إلا الاسم المستعار للغرب،صحيح أن هذا الذوبان يتمناه المثقف العربي الحديث من كل قلبه،ولكن الرياح لأسفه ولحسن حظنا لا تجري كما تشتهي سفن هذا المثقف، "فالعالم"لا يكفيه ولاء المثقف العربي له لكي يمنح الثقافة العربية جواز السفر الثقافي العالمي،بل هو يريد أن يحصل على ولاء المجتمع الأهلي له وهذا بعيد المنال حالياً وفي المدى المنظور. كاتب هذه السطور يفتخر بأنه ينتمي إلى مدرسة قديمة تجاوزها وهمياً الشكلانيون هي مدرسة الالتزام وهي مدرسة لا تزال على رأيها بأن المضمون والشكل لا ينفصلان وأن الاعتقاد أن الشكل هو كل شيء يدمر الفن ولا ينتج إلا فناً زائفاً وفنانين زائفين. محمد شاويش-برلين-14 نيسان 2000.


 
 روابط ذات صلة
· زيادة حول عين على الإعلام
· الأخبار بواسطة editor


أكثر مقال قراءة عن عين على الإعلام:
مسلسل"أم كلثوم"..ومسائل ثقافية ذات علاقة


 تقييم المقال
المعدل: 3.13
تصويتات: 23


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ


 خيارات

 صفحة للطباعة صفحة للطباعة